في دورتها 32 المنعقدة في جدة، تسلمت المملكة السعودية رئاسة القمة العربية من نظيرتها الجمهورية الجزائرية، وسط تحديات سياسية وأمنية واجتماعية، وقد حضر إلى جانب الزعماء العرب، الرئيس الأوكراني زلينسكي على متن طائرة فرنسية، بالإضافة إلى عودة سوريا لمقعدها في الجامعة العربية، ولعل كلمات الحضور التي تخللتها عبارات الامتنان والشكر في إنجاح القمة، لم تخل من التنديد بعودة النظام السوري للجامعة وذلك بانسحاب أمير دولة قطر، لينتهي اللقاء الذي جمع أعداء الأمس على إعلان ختامي لا يختلف جذريا عن البيانات السابقة، في ظرف تتصاعد فيه تحديات الانفصال والهجرة غير النظامية، والتغوّل الصهيوني في الأراضي المحتلة والمقدسات، وليستعيد الربيع العربي رهانه الأخلاقي والتاريخي حول دور الجامعة في تلبية طموحات شعوبها، أم أنّها مجرد مقاعد تتربع على رؤوس من هجرتهم آلة القتل والتطبيع، فهل استطاعت الجامعة العربية حقا أن تطوي صفحة التغيير في المنطقة؟
عودة إلى الخلف
في 16 من نوفمبر/تشرين الثاني 2011 أعلنت الجامعة العربية قرار تجميد عضوية سوريا، مبدية قلقها تجاه تصاعد العنف من طرف النظام والمعارضة، داعية إيّاهم إلى احترام حقوق الشعب في الحياة والحرية، وإلى جانب قرار “تجميد العضوية” اتخذت الجامعة عقوبات ضد الحكومة السورية للحيلولة دون استمراريتها في سياسة القمع والتهجير الممنهجة، وقد شملت العقوبات الجوانب الاقتصادية والسياسية على الأفراد والكيانات النظامية، وبالتزامن مع تلك القرارات الاستثنائية للجامعة العربية، فقد دعا أمينها العام نبيل العربي حينها، المعارضة السورية للاجتماع لبحث آليات الانتقال السياسي وتوحيد المعارضة، وسبل توفير الحماية اللازمة للمدنيين.
لقد مثلت الجامعة العربية منذ تأسيسها عام 1945 البيت الكبير للعمل المشترك، وقد أثرت سياساتها ومواقفها على دعم القضايا المركزية للأمة وتحدياتها ورهاناتها التي لا تكاد تسلم من تداعيات التطورات المفاجئة في العالم، كما أنّها حافظت على “كيانها المؤسساتي السلطوي” الذي رسّخت قراراته ما تصبو إليه الطغم الحاكمة، وبعيدا عن آمال شعوبها التي تكالبت عليها الحروب والمنافي والهجرة غير النظامية، استمر العبث بالمكتسبات العربية التي اختصرتها الجامعة في مسيرتها التاريخية ضمن مناهضة الاستعمار وتصفيته، واحترام سيادة الدول، والعمل على إيجاد سوق عربية مشتركة، والتبادلات التجارية والثقافية الحرة، وتأمين سلاسل الغذاء لشعوبها، ضمن قرارات لا ينبري حبرها مرافعا إلا عن مقاعد تجثو على رقاب البؤساء، ولعل “إعلان جدة” لم يكن استثناء يحمل في طياته حلولا نهائية للصراع العربي/الإسرائيلي، ولا للأزمات الداخلية التي أنهكت الدولة الوطنية كونها ملاذا آمنا لاستقرار مجتمعات ما بعد الكولونيالية.
لا يبدو على صناع القرار العربي أنّهم يملكون الرغبة الحقيقية لحل خلافاتهم وصراعاتهم المبنية على تزعم المنطقة وفق استراتيجية الهيمنة النيوكولونيالية، ناهيك عن حل الأزمات الداخلية للدول التي ساهموا بشكل مباشر على تخريبها بوأد تطلعات شعوب المنطقة في الحرية والعدالة والديمقراطية، فما تواجهه الجغرافيا العربية تجاوز بكثير المخاطر التي كانت تهدد الدولة ككيان قائم على حفظ الأمن واحتكار العنف وخدمة المجتمع، وما خلّفه الربيع العربي من صراع وتحولات رهيبة في بنية الأنظمة والمجتمعات على حد سواء، يستحيل أن يعيد عجلة التاريخ إلى ما قبل البراميل المتفجرة، وما رسمته التدخلات الخارجية للناتو في ليبيا، ولا يمثل سوى فشل منظومة العمل العربي المشترك في مواجهة التحديات التاريخية والاجتماعية، منظومة سارعت لتجريم الاحتلال التركي بأشد عبارات التنديد والشجب، متناسية الغزو الروسي الذي طال الأراضي السورية بأبشع أنواع آلات القتل البربرية.
سعت الجامعة العربية لحل نهائي للقضية الفلسطينية ضمن مبادرة السّلام العربي/الإسرائيلي، لكن حلولها النهائية كانت مشروطة دائما بقبول إسرائيل لها، وعلى ذلك الأساس انطلق قطار التطبيع مع الاحتلال يأخذ منحى خطيرا ومربكا للذين يناهضونه، هدد من رمزية المسألة الفلسطينية كونها القضية المركزية للأمة العربية والاسلامية، وقد تمثل ذلك بشكل صريح في إدانة وزير الخارجية الإماراتية عملية إلعاد 2022، بعد تهنئته نظيره الإسرائيلي يائير لبيد بمرور 74 عاما على قيام إسرائيل، واصفا ردود فعل المقاومة الفلسطينية بالعمل الإرهابي والهمجي، وقد قضى تسابق التطبيع مع الاحتلال على ما يسمى “بالتسوية العادلة” التي تبنّاها إعلان جدة، للخروج من الوضع القائم بالأراضي المحتلة، وإلى جانب التحوّلات السياسية المعنونة من “مناهضة التوسع الصهيوني” إلى “تفعيل اتفاق أبراهام” المبرم مع الإمارات والبحرين والمغرب، كواقع يحتم بدء العمل مع إسرائيل كشريك سياسي واقتصادي في المنطقة، وبدل البحث عن حل جذري للحرب في اليمن وسوريا، وتسوية سياسية في ليبيا والسودان، وصولا إلى تجريم مختلف أنواع الاستعمار في الصحراء الغربية وفلسطين، تتجيش الجامعة العربية في دورتها الاستثنائية لرفض الانتقال الديمقراطي داخل فضائها الملتهب بصراع الهويات والأقليات.
على هامش العناوين الكبرى
ارتبط العمل العربي المشترك بعناوين كبرى وقضايا مركزية منذ نشأة الصراع العربي/الإسرائيلي، وقد تمثل ذلك ابتداء في “مسألة انهاء الاستعمار” التي تأخذ شكلا مغايرا ومتطورا عن تركيبته التقليدية، إذ يرمز لإسرائيل بالحلقة الأخيرة في سلسلة إخفاقات الأنظمة العربية التي فشلت حكوماتها في مواجهة الاعتداءات الصهيونية المستمرة ضد الفلسطينيين، لكن ومع إقرار حلول التسوية والمبادرة العربية/الإسرائيلية، باتت فكرة تصفية الاستعمار، تحديا للجامعة العربية.
وبحضور الرئيس الأوكراني الذي ألقى كلمة يدعو فيها القادة العرب إلى تجريم الاحتلال الروسي لأراضيه، بات من الواضح أنّ المكسب الذي تحققه الجامعة العربية من اجتماعاتها الدورية العادية والاستثنائية، لا يتجاوز الحبر الذي تمحوه اعتداءات إسرائيل والتدخلات الإمبريالية المكلفة والمرعبة، ما يجعل تعطيل مسألة تصفية الاستعمار من لدن البورجوازية اللاوطنية عائقا أمام ترسيخ مواطنة فاعلة ودولة قوية بإمكانها تفعيل العمل العربي المشترك، فغزو العراق للكويت كان خطئا تاريخيا ممن آمنوا بالوحدة العربية والمصير المشترك، وما كان على الممالك الخليجية أن تعيد الكرّة في غزو اليمن استنزفت من خلالها الخيار السلمي كحل لانتقال سياسي ديمقراطي، ولعل الدرس الذي يوليه الاهتمام بقضية تصفية الاستعمار وإنهاء أشكاله، تلك التحديات التي فرضتها موجة الربيع العربي الكامنة في هشاشة الدولة وهياكلها البيروقراطية المنضوية تحت سطوة النخبة.
مرحلة تاريخية صعبة
يراهن البعض بعد عودة سوريا إلى مقعدها بالجامعة العربية، على إمكانية تجاوز مرحلة تاريخية صعبة ومرهقة للصراع العربي/العربي، وهم بذلك إنّما يكرّسون مزاعم سعت الكومبرادورية للترويج لها على أنّها تهديد امبريالي للدولة، غير أنّ الانتفاضات العربية أثبت مدى انفصال الأنظمة بسجل خيباتها التاريخي عن الدولة الوطنية الفاعلة، وخطورة ربط زوالها بسقوط مؤسسات الدولة مجرد لحظة استثنائية تأذن بتهاوي تاريخ ثوري قدّر له أن يكتب عظمة شعب كافح لنيل استقلاله من أجل عدالة اقتصادية وتنوع سياسي، ومهما بدت حكاية الربيع العربي بوصفه مرحلة تاريخية لاستعادة استقلال مكتمل الأركان والهوية، فإنّ فعله الثوري وإن تراجع إلى غير ما تصبو له الشعوب من قهر الديكتاتورية وتكالب الإمبريالية، تبقى مكتسباته من الحرية والكرامة تكفي لأن يستعيد صوت البوعزيزي والساروت والكنداكة داخل قصور تطاردها لعنة الخاشقجي، وما الإصلاحات التي دعى إليها الرئيس السوري بشار الأسد إلا عناوين كبيرة في سجل خيباتها المتكرر والمثقل بالخذلان.
كاتب من الجزائر