هناك من يحذر من أن تدهور الوضع الاقتصادي في السلطة الفلسطينية يقربها من احتمال الانهيار، وهو ما لا ينسجم مع المصالح الإسرائيلية. كيف يمكن لمشروع ضخم، مثل بناء مدن فلسطينية جديدة، أن يوفر حلاً لسلسلة من إخفاقات السلطة الفلسطينية، والتحديات التي تواجهها، والمعضلات التي تفرضها على إسرائيل؟
خطر انهيار السلطة الفلسطينية، إلى جانب الحاجة إلى تغييرات كبيرة داخلها – وهي الشروط المسبقة لإعادة تأهيلها وعودتها إلى قطاع غزة وخلق الظروف الملائمة لتسوية سياسية على أساس مبدأ الدولتين وتحقيق التطبيع مع السعودية وإنهاء الحرب في غزة – يتطلب نهجاً مختلفاً عما تم قبوله في الماضي. وجزئياً، فإن إنشاء مدينتين أو ثلاث مدن فلسطينية (مثل روابي، شمال رام الله)، وتكرار هذا النموذج لاحقاً في قطاع غزة كعنصر من عناصر تصميم بنية إقليمية جديدة، ربما يقدم إجابة لسلسلة من الأسئلة.
التحديات
إن التنفيذ الناجح لمشروع عملاق مقترح سيشجع مشاريع إضافية ذات حجم وأهمية مماثلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو ما يضع الأساس لتغيير النظام الفلسطيني والإقليمي، بما يتجاوز النظام الفلسطيني نفسه.
وتواجه السلطة الفلسطينية منذ تأسيسها في مايو/أيار 1994 صعوبات اقتصادية، حيث أصبح اعتمادها الاقتصادي على إسرائيل مطلقاً. وتفاقمت الضائقة على مر السنين بسبب عمل السلطة الفلسطينية ككيان فاشل، بعد أن فقدت ثقة الجمهور الفلسطيني، بالإضافة إلى الظروف المتعلقة بالانقسام في الساحة الفلسطينية والتنافس المستمر بين حماس والسلطة الفلسطينية/فتح. فضلاً عن الجمود الذي طال أمده في العملية السياسية، بما في ذلك سياسات إسرائيل في بعض الحالات.
باستثناء فترة ولاية سلام فياض كرئيس للوزراء، التي عمل خلالها بشكل منهجي ومستمر وهيكلي على إنشاء مؤسسات دولة فاعلة، والقضاء على الفساد، وإقامة الإصلاحات الهيكلية، وبناء البنية التحتية الوطنية، وتعزيز الاقتصاد، فضلت قيادة السلطة الفلسطينية التركيز على تدويل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وملاحقة إسرائيل على الساحة الدولية، وإدامة روح المقاومة المسلحة واللاجئين، مع رفض صارم لأي تحرك لتحسين الظروف المعيشية للاجئين في أراضي السلطة الفلسطينية وإعادة تأهيلهم.
لقد تفاقمت الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها السلطة الفلسطينية في السنوات الأخيرة، وتفاقمت أكثر منذ هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. وقد أدى ذلك إلى تعريض قدرتها على تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، وخاصة موظفيها، بما في ذلك العاملون في الأجهزة الأمنية، للخطر. أحد أسباب الضائقة الفلسطينية المتزايدة هو منع أكثر من 150 ألف عامل فلسطيني من العودة إلى العمل في إسرائيل بسبب الوضع الأمني. ولم يُسمح إلا لبضعة آلاف بالعمل في المناطق الصناعية في “يهودا والسامرة”، وعدد أقل من ذلك حصل على إذن استثنائي للدخول والعمل في إسرائيل. يعد العمل في إسرائيل أحد أهم مصادر الدخل للسلطة الفلسطينية. ولا يمكنها تشغيل آلاف العمال الذين عملوا سابقاً في إسرائيل ولا تعويضهم اقتصادياً عن نقص الدخل نتيجة عدم قدرتهم على العمل في إسرائيل.
لقد كانت الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها السلطة الفلسطينية واضحة منذ سنوات، حيث لم تدفع لموظفيها رواتبهم كاملة، بل فكرت مؤخرًا في إجراء المزيد من التخفيضات في الرواتب. وعلى الرغم من تخصيص ما يقرب من 7 في المئة من ميزانيتها السنوية (المقدرة بحوالي 6 مليارات شيكل لعام 2024)، إلا أن السلطة الفلسطينية تضمن دفع كامل المبالغ للإرهابيين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية ولعائلات الإرهابيين الذين قتلوا. ويجب التأكيد بأن الولايات المتحدة، مثل الدول الأخرى المعنية بوضع السلطة الفلسطينية وعملها، لم تطالب السلطة الفلسطينية بتحويل مليارات الشواكل المدفوعة للإرهابيين وعائلاتهم لتغطية رواتب موظفيها. زد على ذلك أنه يتم ممارسة ضغوط على إسرائيل حتى لا تخصم المبلغ المدفوع للإرهابيين من أموال المقاصة -الضرائب التي يتم جمعها لصالح السلطة الفلسطينية – بدعوى أن ذلك قد يؤدي إلى تفاقم الصعوبات التي تواجهها السلطة الفلسطينية.
منذ خروج كتلة الوحدة الوطنية من الائتلاف، يبدو أن سموتريتش، وزير المالية ووزير الدفاع، تمكن من المضي قدمًا في سياسته المتمثلة في معاقبة السلطة الفلسطينية على أفعالها ضد إسرائيل على الساحة الدولية. لقد فعل ذلك من خلال تقليص أو إلغاء التحويلات المالية وفرض عقوبات اقتصادية إضافية، ما قد يؤدي إلى تفاقم وضع السلطة الفلسطينية إلى حد الانهيار. ويُزعم أن هذا هو هدف سموتريتش، من تنفيذ “خطته الحاسمة” التي نشرت في مجلة هشيلوخ عام 2017.
وتحذر أجهزة الأمن الإسرائيلية، بما في ذلك جيش الدفاع الإسرائيلي، ومنسق أعمال الحكومة في “المناطق”، وجهاز الأمن العام، من عواقب هذه الإجراءات العقابية. وهم يدعون إلى تجديد توظيف العمال الفلسطينيين في إسرائيل، ولو بطريقة مدروسة ومنضبطة. كما يدعون إلى مواصلة تحويل أموال المقاصة والمساعدة إلى السلطة الفلسطينية من قبل الدول الأخرى. ومع ذلك، تكافح الحكومة الإسرائيلية لاتخاذ قرار بشأن تجديد توظيف العمال الفلسطينيين في إسرائيل بسبب المعارضة الشعبية والمخاوف الأمنية الملموسة، خاصة في سياق حرب غزة والحرب المكثفة على الإرهاب في “يهودا والسامرة”.
وفي الوقت نفسه، تقود الولايات المتحدة والدول العربية البراغماتية جهوداً لتسهيل عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة. وهذا جزء من آلية إنهاء الحرب وبلورة الشروط لإقامة الدولة الفلسطينية المستقبلية. وتعتبر هذه شروطاً ضرورية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية في إطار بنية إقليمية جديدة وفقاً للرؤية الاستراتيجية الأمريكية للشرق الأوسط، والتي قد تعمل على مواجهة المحور الإيراني.
وتعارض الحكومة الإسرائيلية بشدة عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، معتبرة أنها لا تستطيع السيطرة بشكل فعال على المنطقة وسكانها، وبسبب ضرورة إجراء إصلاحات شاملة وعميقة داخل السلطة الفلسطينية، كما يقتضي مفهوم “السلطة الفلسطينية المنشطة” المطروحة من قبل الرئيس بايدن. وفي الوقت نفسه، خفف موقف الحكومة الإسرائيلية بشكل ملحوظ تجاه عناصر فتح المحلية في قطاع غزة المرتبطة بالسلطة الفلسطينية أو المتعاطفة معها. وعلى الرغم من الأهمية التي توليها الحكومة الإسرائيلية للتطبيع مع السعودية، فإنها لا تزال تمتنع عن طرح أفق سياسي، حتى لو كان غامضاً وغير محدد زمنياً، جوهره دولة فلسطينية مستقلة/حل الدولتين.
لقد عملت السلطة الفلسطينية منذ فترة طويلة ضمن منطقة راحة تعفيها من التغييرات العميقة المطلوبة، وتسمح لها بمواصلة جهود تدويل الصراع وملاحقة إسرائيل في المحاكم الدولية، والغرق في أزمات اقتصادية ووظيفية مع إعفائها من المسؤولية، والاعتماد على المجتمع الدولي، والدعم والمساعدات المالية، والضغط على إسرائيل لتجنب العقوبات الاقتصادية، بالإضافة إلى الاستمرار في رعاية روح النضال الفلسطيني واللاجئين. لكن خطر انهيار السلطة الفلسطينية وأهمية الإصرار على تغييرات عميقة داخل السلطة الفلسطينية كشرط لإعادة تأهيلها وتجديدها وعودتها إلى قطاع غزة، ولتهيئة الظروف أمام تسوية سياسية على أساس مبدأ حل الدولتين، فضلاً عن إنهاء الحرب في القطاع – كخطوات تكميلية وضرورية لتعزيز التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية – يتطلب نهجاً بديلاً للنهج المقبول.
إنشاء مدينتين أو ثلاث مدن فلسطينية، مثل مدينة روابي شمال رام الله ومدن أكبر في “السامرة” بين جنين وطولكرم، وفي المناطق (أ) و(ب) الخاضعة للسيطرة المدنية للسلطة الفلسطينية، ومن ثم تكرارها في قطاع غزة كجزء من عملية إقليمية أوسع نحو تصميم بنية إقليمية جديدة، ربما يعالج سلسلة من إخفاقات السلطة الفلسطينية، والتحديات التي تواجهها، والمعضلات التي تفرضها على إسرائيل.
إن المساعدة الدولية التي تركز على مشاريع البنية التحتية الوطنية الفلسطينية، مثل بناء المدن، ستسمح بما يلي:
1- تشغيل الفلسطينيين الذين لا يسمح لهم بالعودة إلى وظائفهم في إسرائيل وتحسين وضعهم الاقتصادي.
2- تحسين البنية التحتية للدولة في السلطة الفلسطينية وتنشيطها ككيان أكثر وظيفية وإنتاجية وشرعية.
3- تحسين المستوى المعيشي ونوعية الحياة بشكل كبير لسكان مخيمات اللاجئين في جنين ونابلس وطولكرم، وإخلاء مخيمات اللاجئين وهدمها، وإعادة تأهيل البنية التحتية الحضرية في مكانها.
4- تنشيط الاقتصاد الفلسطيني من خلال تعزيز القطاعات المرتبطة بالبناء.
5- إعداد بنية تحتية جديدة للاتصال بالبنية التحتية الإقليمية ضمن الهيكل الإقليمي الجديد، بما في ذلك النقل والطاقة والمياه ونقل البضائع.
6- التمييز بين السلطة الفلسطينية وحماس (خلافاً للوضع الحالي): السلطة الفلسطينية كعامل متكامل في عملية التسوية الإقليمية، المدعومة من المجتمع الدولي وإسرائيل، بما يؤدي إلى تحقيق المصالح الحيوية للشعب الفلسطيني والدولة المستقبلية، مقابل حماس باعتبارها حركة غير شرعية وتعرقل تقدم المصالح الأساسية للشعب الفلسطيني وتعمل كعامل مزعزع للاستقرار.
7- تغييرات هيكلية عميقة داخل السلطة الفلسطينية، مما يتيح مستويات أعلى من الأداء الوظيفي والمسؤولية والمساءلة، ويخلق الظروف اللازمة للسيطرة الفعالة للسلطة الفلسطينية على أراضيها في البداية، ثم في قطاع غزة بعد تفكيك أنظمة الحكم والأنظمة العسكرية لحماس وحرمانها من القدرة على استعادة السلطة.
8- معالجة قضية اللاجئين وروحها، والحفاظ على المطالبة الفلسطينية بحق العودة، حتى لو لم تعلنها القيادة الفلسطينية علناً. وهذا يعني حل قضية اللاجئين في إطار الدولة الفلسطينية المستقبلية ورفض فكرة حق العودة إلى دولة إسرائيل ذات السيادة. وستكون الخطوة التكميلية هي هدم جميع مخيمات اللاجئين في قطاع غزة كجزء من إعادة تأهيل القطاع وإنشاء مدن جديدة وحديثة بالإضافة إلى البنية التحتية المتطورة لها.
9- إعلان إسرائيلي عن أفق سياسي يتوافق مع فكرة الدولتين الوطنيتين، لا يتوقفان على الزمن ولا يحدهما الزمن، بل على الأداء وعمق التغييرات داخل السلطة الفلسطينية، لتعزيز التطبيع مع السعودية. ولن تظل القضية الفلسطينية هماً إسرائيلياً فحسب، بل شأن إقليمي وجزء من المسؤولية المشتركة.
إن البنية الإقليمية الجديدة قد تسمح بتحويل الجهود نحو حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من المستوى الثنائي، الذي تم استنفاده، وحيث لا تستطيع الأطراف سد الفجوات بينهما، إلى المستوى الإقليمي المتعدد الأطراف. ومن شأن هذا المستوى أن يخلق فرصاً جديدة، ويشجع على تشكيل مناهج وآليات وأنماط عمل جديدة غير موجودة على المستوى الثنائي. وفي مجال حل النزاعات، يُشار إلى ذلك باسم “توسيع الكعكة”.
ومن شأن التنفيذ الناجح لمشروع ضخم من النوع المقترح أن يشجع على التفكير في مشاريع أخرى ذات حجم وأهمية مماثلة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهذا بدوره يرسي الأساس لتغيير من الدرجة الثانية، أي تحول في النظام الفلسطيني والإقليمي، وليس تغييراً من الدرجة الأولى داخل النظام القائم. فالنظام القائم، بمبادئه التوجيهية ومظاهره الملموسة، قد استنفد، واستنفد محتواه، وأثبت فشله منذ زمن طويل.
كوبي ميخائيل
منشورات خاصة/ معهد بحوث الأمن القومي 9/7/2024