تكريم شخصية أدبية مرموقة…

حجم الخط
11

التكريم يمنح الإنسان المُكرَّم شعوراً بالرضى وربما بغصّة ما، فتكريم المبدع يعني أن الجزء الأهم من نشاطه وإبداعه صار من ورائه.
كثيراً ما تصل هذه التكريمات متأخرة، فقد تجري بعد رحيل المبدع، أو بعد تناقل خبر إصابته بمرض خبيث والشعور بالتقصير نحوه، فيسرعون لتكريمه في سباق مع المرض، حتى أن التكريم قد يتحول إلى وداع أكثر مما هو تكريم أدبي، إذ تختلط عملية التكريم على المنجز الأدبي بالبعد الإنساني العام والعلاقات الأُسَرية والشخصية.
أحد المبدعين الذين احتفي بهم مؤخراً هو الناقد الأدبي سليمان جبران، الذي ما زال يعيش في حيفا.
له عدة مؤلفات نقدية في اللغة والأدب، منها دراسات صدرت في أكثر من عشرة كتب، منها في شعر عبد الوهاب البياتي، وفي نثر محمود درويش، وشعر الجواهري، وفي أدب أحمد فارس الشدياق الذي قدم رسالة الماجستير حول كتابه «الساق على الساق»، ويعتبره أول كاتب سيرة ذاتية بالعربية وهو أحب مؤلفاته إليه، وله دراسات نقدية في الأدب العربي والفلسطيني، ودراسة في الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب البريطاني، ودراسات في اللغة العربية المعاصرة، وأخيراً كتاب «ملفات الذات»، ويأتي فيه على بعض المحطات من حياته منذ طفولته حتى إصابته بجلطة دماغية قبيل بضع سنوات.
أعجبني في مطلع الكتاب لماذا أطلقوا على شقيقه اسم (سالم)، وهو الشاعر الراحل سالم جبران، وذلك لأن والدته سقطت عن سطح البيت أثناء اقتحام شرطي إنكليزي بحثاً عن التبغ المهرّب، ربط الرجال الوالدة الحامل بحبل من خلال ثغرة في سطح البيت الطيني كي تهبط وتربط التبغ المهرّب لسحبه وإخفائه قبل خلع الشرطي الغاضب للباب، إلا أنها سقطت من الحبل على المصـطبة، وذلك لأن الحبل لم يُربط جيّداً، ورغم ذلك نجحت بربط التبغ فسحبوه وأخفوه قبل اقتحام البيت. وبما أن العملية انتهت بسلام ولم تجهض الوالدة، فقد أطلقوا على الجنين الذي كان في رحمها اسم سالم، هكذا.. فالشاعر سالم جبران الذي ذكره الراحل غسان كنفاني كواحد من شعراء المقاومة، بدأ مقاومته وهو في رحم أمه، أما الكاتب سليمان فهو على اسم عمه.
بلا شك.. كثيرون سيقولون إننا لو أطلقنا اسم (سالم) على كل جنين أصيبت والدته بأذى خلال فترة حملها به، سواء من قوات احتلال أجنبي أو من خلال قمع داخلي أو أسري كالزوج والشقيق والابن، أو من خلال حوادث عابرة، لكان عندنا ملايين الذكور من أبناء الأمة العربية الذين يحملون اسم سالم، وملايين من السّالمات.
من جميل اعترافه أن أول وظيفة تسلمها في سلك التدريس كانت بوساطة رجل سلطة كان من معارف والده، إلا أنه اجتهد وواصل دراسته الجامعية في جامعة حيفا إلى أن وصل لأن يكون أستاذاً للغة العربية وآدابها في جامعة تل أبيب.
من القصص المؤثرة في الكتاب، أنه خلال الأيام الأولى للنكبة صدرت أوامر إلى المسيحيين في قرية البقيعة مسقط رأس المؤلف، بالرحيل إلى لبنان، مثل إخوانهم المسيحيين من قرى أخرى.
قرّر والد سليمان أن يفعل أمراً بالنسبة لأرضه، فقد أدرك أن اليهود سوف يستولون على الأراضي التي يُهجّر أصحابها إلى لبنان، فعمد إلى حيلة وكتب حُجّة، والحُجّة في تلك الأيام هي وثيقة بيع وشراء معترف بها، كتبها بينه وبين أبي سلمان من الحارة الشرقية في البقيعة، وهو رجل من أسرة درزية على ما يبدو وبينهما ود وصداقة.
هكذا صارت الأرض ملكاً لأبي سلمان، إلا أن الأوامر ما لبثت أن اختلفت بالنسبة لمسيحيي بعض القرى، بأن يعودوا إلى بيوتهم ومنها البقيعة، ولهذا أسباب سياسية بعيدة المدى لن نخوض فيها هنا. بعد أن استقرت الأمور نوعاً ما، وضمن أبو سليمان بقاءه في فلسطين، زاره أبو سلمان، احتسيا فنجان قهوة، ثم أخرج أبو سلمان الحجة الموقّعة بينهما من عبّه، ومزقها وألقى بها في الموقد.
القصة تحكي عن قيم تلك الأيام، والثقة الكبيرة التي سادت بين الناس لدرجة كتابة الأرض باسم شخص آخر واستردادها عندما تسمح الظروف، وطبعاً هذا ما نفتقده في هذه الأيام.
يتحدث الأستاذ سليمان جبران عن تدخل جهاز الأمن العام (الشاباك) لمنعه من العمل كمعيد في جامعة حيفا التي درس فيها اللغة العربية وتاريخ الشرق الأوسط، وذلك بعدما طلبه أستاذ من أصل فرنسي يعمل في الجامعة ووعده بالوظيفة في السنة التالية، إلا أن هذا لم يحدث، وصار الأستاذ يتهرّب منه دون أن يعرف السبب، وفيما بعد قرأ مقالة كتبها الأستاذ نفسه في صحيفة (هذا العالم) التابعة لحزب مبام الصهيوني اليساري، عن تدخل جهاز الأمن العام في تعيين الموظفين العرب، ومثال ذلك، التوصية بمنع سليمان جبران من العمل كمعيد في جامعة حيفا.
رُبّ ضارة نافعة.. كما يقول، فقد التقى صدفة خلال حفل زفاف في قرية كفر ياسيف بأستاذ للغة العربية من جامعة تل أبيب، وهو يهودي من أصل عراقي وحاصل على الدكتوراه من جامعة أمريكية في أدب نجيب محفوظ، هذا الأستاذ (ساسون سوميخ) عبّد له الطريق للعمل في جامعة تل أبيب معيداً، ليبقى فيها منذ العام 1970 إلى 2007 ليصبح بروفيسوراً ورئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها فيها من 1998 إلى 2002، كذلك شغل منصب رئيس مجمع اللغة العربية في حيفا بين 2004 حتى 2006 وهو أحد مؤسسيه.
يتحدث الكاتب عن رفض الشعراء والكتاب تقبل نقده، فرد الفعل يتحول في كثير من الأحيان إلى موقف شخصي بعيداً عن النص ومعالجته النقدية، وهذا جرّ عليه خصومات، حتى إن كثيرين نصحوه بالتخفيف من حدة نقده وإلا فليتحمل الخصومة وسواد الوجه.
أصيب الأستاذ بجلطة دماغية قبل بضع سنوات نجا منها، إلا أنها تركت أثرها في توازنه خلال مشيه، كذلك فإنه ينسى كثيراً، وقد أصبح في الثمانين من عمره، إلا أنه يتمتع بروح الدعابة.
اشتركت في تكريمه قبل أسبوعين في قرية دالية الكرمل التي عمل مدرّساً في ثانويتها في بداية مشواره لمدة عقدين من القرن الماضي، حضر العشرات من طلابه وطالباته، الذين صاروا كهولاً وشيوخاً ورجال أعمال ومتقاعدين ومهتمين وغير مهتمين بالأدب، تحدثوا عن ذكرياتهم مع أستاذ اللغة العربية الذي ما زال يحتفظ بحب كبير لهم ولتلك البلدة المتكئة على مرتفعات الكرمل، وما زالوا يبادلونه الحب والاحترام نفسه.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    كان الناس قديماً على الفطرة! وكانت الثقة لا مثيل لها!! كيف كُنا وكيف أصبحنا؟ ما الذي تغير؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول أسعد جابر / ليدن - هولندا:

    سالم الراحل الشاعر المُقِلّ لدّمث الخلوق وسليمان واضح الرأي بليغ وباحث متمكن ، تزامنا معاً في جامعة حيفا ، ثم تركت البلاد إلى هولندا وتابعت أخباره عبر زملاء من جامعة تل ابيب كانوا في زيارة إلى جامعة ليدن حيث عملت استاذا للغة العربية وآدابها أو في زيارة إلى سواس – لندن ..أعمال سليمان الأدبية فيها من الجِدّة والألق والنظرة الصائبة ما يجعل منها مصادر في كيفية البحث والنقد ، مدّ الله في عمرك عزيزي سليمان مع حفظ الألقاب .

  3. يقول كمال - نيويورك:

    كلك ذوق و لك كل الاحترام. هذا التكريم المعنوي سيكون أكبر تعويض يمكن أن يحس به أديب أو فنان يجعل كل همه في الحياة أن يخلد عبر آثار لا تزول، ولا سعادة تعادل شعور الأديب أو الفنان “الحي” بمثل تلك المبادرات.

  4. يقول فاطمة كيوان:

    الشكر والثناء والتقدير لاولائك الذين يهتمون بتكريم المبدعين وهم على قيد الحياه، فقد جرت العادة ان يبقوا في عداد النسيان الا ان يتوفاهم الله وعندها يبدأ لحديث عن كتاباتهم وابداعهم وتكريمهم وتتسابق الاطر الحزبية التي ينتمون اليها والمؤسسات التي شغلوا مناصبها للتكريم وقد فات الاوان لاسعادهم وهم على قيد الحياه.
    سليمان حبران المبدع الذي كان بنقده وكتاباته واضحا وصريحا دائما اغاظ البعض بصراحته وحديثه عن درويش ، كان همه الوطن وعانى كغيرة من الشباب من العائلات التي اعتبرتها الحكومة (شيوعية ) بعدم القبول للعمل بجامعة حيفا الا ان الحظ حالفه في تل ابيب ليمنحه بابا للنجاح بمساعدة المفكر ساسون سوميخ .
    كتبه عديده في الدراسات والنقد ولدينا بعض مؤلفاته بالمكتبة.
    نشد على ايدي المنظمين وندعو للمحتفى به بالصحة وطول العمر وعلينا ان نقتدي بهذا النموذج لان تكريم المبدعين يزيد من عطائهن ويثري نفوسهم بالرضى ويمنحهم شعلة الامل ان ما زال هناك من يقدر الادب .
    دام نبض قلمك استاذ سهيل لنقل الاخبار الطيبة

  5. يقول لطفي خلف:

    تمتعنا ما بين الفينة والأخرى بما يبهج النفس وتثري نصوصك بمعلومات قيمة قريبة منا ولم نسمع بها سابقا…جهود كبيرة تشكر عليها استاذ سهيل …مودتي

  6. يقول بولنوار قويدر-الجزائر-:

    السلام عليكم
    تحية طيبة مباركة لك(سي سهيل) وللجميع
    كالعادة روائعك تستحق كل الثناء والتقدير لما فيها من قيّم ومواقف إنسانية ورجولية ومكارم أخلاق وتبادل الثقة وإنزال الناس منازلهم ومنها:(التكريم يمنح الإنسان المُكرَّم شعوراً بالرضى-*ثم أخرج أبو سلمان الحجة الموقّعة بينهما من عبّه، ومزقها وألقى بها في الموقد-*هذا الأستاذ “ساسون سوميخ” عبّد له الطريق للعمل في جامعة تل أبيب معيداً-* حضر العشرات من طلابه وطالباته… وما زالوا يبادلونه الحب والاحترام نفسه )
    إنّ مثل هذه القامات تستحق الإحتفاء بها وتكريمها وهي في الميدان بالتشجيع وفتح الطريق أمامها لتزداد عطاء وثمارا أمّا لما تركن للراحة فهي في غنى عن هداياكم لأنّها قد كرّمتها ثمارها بالذكر والثناء عليها…
    في مثل عندنا بالمنطقة يقول(عزوني وأنا حيّ أمّا إذا مت فلا حاجة لي بعزائكم)(أي قدموا لي العزاء في نفسي وأنا حيّ بينكم أمّا إذا مت فلا حاجة لي به)
    ولله في خلقه شؤون
    وسبحان الله

  7. يقول Samaher:

    شكراً عالمقال الجميل دوماً تخرج عن مألوفنا كاتبنا العزيز..
    من الأجحاف أن لا يعطى كل ذو حق حقه خاصة وإن كان صاحب فكر ورسالة ..
    نسعى لأن نحاربهم وهم أحياء ثم لا نرى عظمتهم الا عبر نافذة الموت نفكرُ ملياً قبل أن ننساهم لربما نكرمهم او لا نكرمهم ثم ننساهم للأبد ..
    أن نخلدهم وهم على قيد الحياة مرة خير من أن نخلدهم ألف مرة عند مفارقتهم الحياة ..

  8. يقول باسل:

    للأسف الشديد لم اسمع بالتكريم فلم أحضر
    انا على علاقة قديمة بهذه العائلة الكريمة فالوالد كان صديقا لوالدي ومع سالم كانت تربطني صداقة متينة وكذلك مع الدكتور سليم زمالة في المهنة وصداقة حتى وفاته ومع سليمان معرفة ليست على مستوي علاقتي بإخوته وشراكة في حب الجواهري الذي أحفظ آلاف الأبيات من قصائده رغم أني أعمل في مجال الطب

  9. يقول رسيله:

    مساء الزنبق المورق اخضرارا في انتظار وقت الإزهار ،كاتبنا العزيز مقالتك اليوم قمة في الرقي والفكر المنطلق اشعاعات معنوية تصل حد السماء ، فما أجمل أن يتوج نجاحنا بتقدير الاخرين فتلك حاجة تمثل التعطش الأعمق في تاريخ الطبيعة الإنسانية وقد قالها رسولنا الكريم عليه افضل الصلاة والتسليم :”من لا يشكر الناس لا يشكر الله “.
    هذا والاجمل من كل ذلك ان يتم تكريم المبدع على إبداعه وهو حي يرزق قبل ان يذوي جسده ويوارى تحت التراب فكما قالها الشاعر الفخر الرازي : “المَرءُ ما دام حيّا يُستهانُ به ويَعْظَمُ الرُّزْءُ فيه حين يُفتَقَدُ” فكم جميل تقدير المرء في حياته وقبل مماته.
    والتكريم الذي حصل عليه الناقد الادبي سليمان جبران لم يكن عبثا بل كان كالسهم المصيب لأنه وجه لشخصية مرموقة تميزت نصوصها بروح لغوية جذابة، أثبتت أن وضوح الرؤية هي الجانب الآخر لوضوح النص، ناقد يتمت بلغة سلسة متدفقة، وصياغات واضحة المعنى كرس أعماله الأدبية للوطن وللمرأة خاصة، وللحياةِ وللإنسان عامة.( يتبع)

  10. يقول رسيله:

    ( تكمله ثانيه ) فمن المعلوم أن الإنسان مخلوق مركب من روح وجسد وعادة ما تتعطش الروح الإنسانية إلى الحمد والثناء،فكل واحد من البشر يشتاق إلى أن تكون أعماله وسلوكياته مورد قبول وتأييد عند أفراد مجتمعه، فهو يحب أن يثنى عليه حتى تثبت له بينهم شخصية اجتماعية،ويصل بذلك إلى راحته الداخلية والنفسية وشعوره بكيانه ووجوده.
    ومن الواضح أن الإنسان يحب نفسه لذلك فهو إذن يحب ما يقوم به من ابتكارات ونتائج أفكاره بل هو عاشق لها.
    والحمد والتـرغيب أقوى عامل لدفع الأفراد نحو التقدم والرقي للكمال والأفضل،وهو من أكثر المواضيع الاجتماعية ضرورة ولزوماً كما ان للتقدير والثناء الأثر والفعالية العجيبة في تغيير حال المجتمع الخامل إلى مجتمع حي جديد منبعث نحو الكمال يحرك عجلاته فيملؤها حيوية ونشاطا.
    ان التقدير في الواقع يمثل حالة نفسية تضفي على المقدر شيئاً من الارتياح بكون الآخرين يشعرون بوجوده ويرون أهمية لما قام به من عمل وما بذله من جهد وقدمه من خدمات،فهم يثمنون هذه الجهود التي صدرت منه وخلافا لذلك،( يتبع)

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية