تلك القصائد التي تدخل التاريخ عنوة!

حجم الخط
6

هنالك قصائد تدخل التاريخ، عنوة إذا جاز القول، وتستقرّ عميقاً في الذائقة والذاكرة معاً، ليس بسبب من أنها صنعت منعطفاً فارقاً في تجربة شاعرها، وليس بالضرورة لأنها تتصف بقيمة فنية عالية واستثنائية؛ رغم أنّ عوامل كهذه قد تتوفر فيها أيضاً، ولكنها ليست العامل الأوّل الحاسم في تخليد القصيدة. على سبيل المثال، من نموذج عربي حديث، تلك كانت حال قصيدة محمود درويش «عابرون في كلام عابر»، 1988، التي أثارت ضجة عارمة في دولة الاحتلال الإسرائيلي، إلى درجة أنّ رئيس حكومة الكيان يومذاك، إسحق شامير، أشبعها شتماً في الكنيست. كذلك وصلت «هستيريا القصيدة»، حسب وصف درويش، إلى المحاكم الفرنسية حين رُفعت ضدّ الشاعر دعوى قضائية تتهمه بالعداء للسامية، انتهت إلى تبرئته في محكمة الاستئناف، بعد ثلاث سنوات.

للتاريخ مكائده في المقابل، فما تحفظ عليه الشاعر عادت إليه الذاكرة والذائقة، فقفزت قصيدة أودن إلى الأذهان بعد ساعات من هزّة 11/9 التي أودت بالبرجين في نيويورك، وأعادت نشرها نصف دزينة من الصحف الأمريكية الكبرى

ولعلّ أحد أهمّ عناصر هذه «القضية»، من وجهة نظري شخصياً، أنّ درويش لم يدرج القصيدة في مجموعته الشعرية اللاحقة «أرى ما أريد»، 1990، بل أضافها إلى كتاب ضمّ مجموعة من المقالات صدر عن توبقال، في المغرب. ولا يُراد من هذه الملاحظة أنّ درويش لم يكن راضياً تماماً عن القصيدة بالمعنى الفني، أو أنّ خياراته السياسية والوطنية والأخلاقية التي عكسها النصّ قد تبدّلت؛ بل سعى، في ظنّي، إلى التشديد على طابع سجالي جوهري حكم ولادة القصيدة خلال انتفاضة 1988، وعلى البُعد السياقي المحوري الذي يتصدّر أسباب ولادتها، وفي هذا الكثير من أسباب استقرارها العميق في التاريخ والذاكرة والذائقة معاً.
وأمّا المثال الثاني، من الأدب العالمي هذه المرّة، وهو مناسبة كتابة هذا العمود أيضاً؛ فهو قصيدة «1 أيلول، 1939» للشاعر الإنكليزي ــ الأمريكي الكبير و. هـ. أودن (1907 ـ 1973)؛ التي مرّت بالأمس الذكرى الثمانون لولادتها، وتقع في تسعة مقاطع، يمتدّ كلّ مقطع منها على 11 سطراً، وتبدأ هكذا:
أجلس في إحدى الحانات المشبوهة
في الشارع الثاني والخمسين
حائراً وخائفاً
إذْ تتلاشى الأماني الحصيفة
لعَقْدٍ ذميم لئيم:
أمواج من الغضب والخوف
تتدافع فوق المشعّ
والمعتم من أصقاع هذه الأرض،
مستحوذة على حيواتنا الخاصة؛
ورائحة الموت المغْفَلة
تنتهك ليل أيلول.
وكما يشير عنوانها، كُتبت القصيدة عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية واجتياح بولندا، وسطورها تتبادل إشارات متقاطعة بين الخراب الروحي والمادّي الذي يحيق بأوروبا، الموشكة على الدخول في حرب طاحنة؛ والذهاب إلى ألمانيا، والفكر الذي أنجب مارتن لوثر وأدولف هتلر؛ واستذكار قدماء الإغريق في شخص المؤرّخ ثوسيديديس والسياسي الأثيني الأبرز بيركليس، ومسائل الديمقراطية المعاصرة؛ ثمّ العودة مجدداً إلى الحانة («المشبوهة» لأنها غالباً مقرّ المثليين في أمريكا)، وناطحات سحاب نيويورك، وحياد الغرب في الحرب الأهلية الإسبانية الذي عبّد الدروب أمام الفاشية؛ ثمّ إدانة شرور الإمبريالية، والتلفّظ بذلك السطر الإشكالي: «علينا أن نحبّ بعضنا البعض، أو نفنى»، الذي سوف يستخدمه ليندون جونسون في واحد من أفلام الدعاية لحملته في الانتخابات الرئاسية لعام 1964.
«1 أيلول، 1939» نُشرت في مجلة New Republic بتاريخ 18 تشرين الأول/أكتوبر، 1939؛ ثمّ أضافها أودن إلى مجموعته «زمن آخر»، 1940؛ لكنه سرعان ما دخل في صراع مع القصيدة، ابتدأ بحذف المقطع الذي احتوى عبارة المحبّة أو الفناء، ثمّ صارح الناقد لورنس ليرنر: «بيني وبينك أنا أمقت هذه القصيدة»، حسب رواية أفضل نقّاده إدوارد مندلسون. في أواسط الخمسينيات أخذ يرفض منح الإذن بإدراج القصيدة في أية مختارات من أشعاره، حتى أنه أجبر روبن سكيلتون، محرر مختارات بنغوين من شعر الثلاثينيات، على وضع الملاحطة التالية في المقدمة: «كان السيد و. هـ. أودن بالغ الكرم في السماح لي باستخدام نصوص أولى من خمس قصائد لا يقرّ بها اليوم، وهو يعتبر أنها نفاية، ويشعر بالخجل لأنه كتبها»! وإلى جانب القصيدة موضوع هذه السطور، تحفظ أودن على «عريضة»، و«شيوعي يخاطب آخرين» و«إلى كاتب في عيد ميلاده» و«إسبانيا»؛ وجميعها قصائد سياسية، غنيّ عن الإشارة.
مختارات بنغوين هذه صدرت في سنة 1964، ويومها لم يكن أودن أحد كبار شعراء اللغة الإنكليزية، فحسب؛ بل كان شاعر التجديد الأشدّ جسارة في الموضوعات والأشكال، وكان أيضاً الأكثر إشكالية في الانتقال من يسار ثلاثيني صارم الالتزام، إلى نقائض شتى ليبرالية تارة أو يمينية تارة أخرى. وكان سلوكاً طبيعياً، والحال هذه، ألا يقبل إدراج قصيدة مثل «1 أيلول، 1939» في أية مختارات شعرية له من دون أن يتحفظ على مضمونها، وربما شكلها أيضاً بالنظر إلى أنها تحاكي قصيدة الشاعر الإرلندي الكبير و. ب. ييتس الشهيرة «عيد الفصح، 1916».
للتاريخ مكائده في المقابل، فما تحفظ عليه الشاعر عادت إليه الذاكرة والذائقة، فقفزت قصيدة أودن إلى الأذهان بعد ساعات من هزّة 11/9 التي أودت بالبرجين في نيويورك، وأعادت نشرها نصف دزينة من الصحف الأمريكية الكبرى، ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة. وليس عجيباً أنّ يعود إليها اليوم مواطن أودن الإنكليزي إيان سانسوم، مؤلف روايات الجريمة ذات الطابع التاريخي؛ في عمل طريف، غير نقدي البتة، بعنوان «1 ايلول، 1939: سيرة قصيدة»!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسماء قصد الله:

    مقال رائع على جري عادة الحديدي يجمع الرأي والمعلومة والمتعة. استفدت منه كثيرا من ناحية الشاعرين الكبيرين محمود درويش وأودن معا.
    جزيل الشكر ووافر التقدير من تونس الخضراء.

  2. يقول آصال أبسال:

    ملاحظتان على ترجمة المقطع الأول من قصيدة و. ﻫ. أودن..
    1- بالنسبة للسطر الخامس: Of a low dishonest decade
    حبذا لو كانت الترجمة هكذا: «لعَقْدٍ [من السنوات] ذميم لئيم:»..
    مفصحةً عن الزمن المعني لتجنب الالتباس في العربية، في مقابل الإنكليزية التي لا تقتضي هذا الالتباس.. !!
    2- بالنسبة للسطر العاشر: The unmentionable odour of death
    الكلمة الإنكليزية unmentionable لا تعني «مغْفَلة» في هذا السياق ولا في أي سياق آخر، كما يترجم الأخ صبحي /أو من نقل عنه/ ترجمة حرفية ساذجة، استنادا إلى «الغُفْلية» أي «المجهولية» في حال الشركات /غير المسمَّاة/ anonymous.. ولكنها تعني «لا تليق بالذكر»، حتى حرفيا، بوصفها شيئا رجسا أو مدنّسا أو محرَّما بمعنى تحريم الـ«تابو» بالذات.. وعلى ذلك، فإن الترجمة الأقرب إلى المعنى في قلب الشاعر أودن هي كالتالي:
    «ورائحة الموت المقيتة/البغيضة/الشنيعة/المشينة/ إلخ».. !!

  3. يقول حي يقظان:

    أود أن أبدي، هنا، بعضَ الملاحظات النقدية على نص المقال،
    أولاً، دخولُ عملٍ أدبي ما التاريخَ «عنوةً»، بالمعنى الذي أشار إليه الأخ صبحي حديدي مشيرًا إلى كل من قصيدة درويش «عابرون في كلام عابر» وقصيدة أودن «1 أيلول، 1939»، دخولُهُ بسببٍ من حدث سياسي مثير للضجيج الإعلامي في حال المثال الأول أو حدثٍ تاريخي مثير للألم الاجتماعي في حال المثال الثاني، لا يعني بالضرورة «تخليد» هذا العمل بالمعنى «الخلودي» المتعارف عليه في تاريخ الأدب: مقوِّمُ «الخلودِ» في هذا المضمار يبدأ، قبل أي مقوِّمِ «خلودٍ» آخرَ، بما أسميه من المنظور اللساني-النفساني بـ«الغُفْلية المُتَرَوٍّ بها» أو بـ«المجهولية المتعمَّدة» أو بـ«اللامُسَمَّوية المقصودة» Intentional Anonymousness، فيما يخصُّ مؤلفَ (أو مؤلفي) العمل الأدبي المعني، بدءًا من الأعمال الأدبية الخالدة المعروفة نصًّا، ولكن غير المعروفة مؤلفًا (أو مؤلفينَ)، كمثل ملحمة «جلجامش»، وملاحم «الأويسة»، و«الإلياذة»، و«بيوُولْف»، على الصعيد الشعري الإسماعي، وكمثل ملحمة «ألف ليلة وليلة»، على الصعيد النثري (أو السردي) السماعي، وكمثل غيرها من الأعمال الأدبية الخالدة غير معروفة المؤلف (أو المؤلفين) تحديدًا.
    [يتبع]…

  4. يقول حي يقظان:

    ثانيًا، في حال معرفة اسم مؤلف (أو أسماء مؤلفي) العمل الأدبي المعني، كحالي الشاعرين درويش وأودن (وغيرُهما عديدٌ، بطبيعة الحال)، فإن مقوِّمَ «الخلودِ» الثاني الذي لا يقلُّ أهميةً عن المقوِّم الأول، إنما هو «التوظيف المُتَرَوٍّ بهِ» أو «المتعمَّد» أو «المقصود» Deliberate Implementation، لكمٍّ معيَّنٍ من الأسرار والألغاز التاريخية و/أو المعرفية التي تكاد أن تكونَ مستحليةَ الحلِّ (أو شبهَ مستحيلةِ الحلِّ، على أقل تقديرٍ)، بالجهود العقلية الفردية و/أو الجمعية العادية – سواء كان العمل الأدبي المعني منظورًا إليه بمعزل عن، أم بالإضافة إلى، ما يتصف به من صفات «فنية عالية واستثنائية». ويحضرني، في هذه القرينة، تصريحُ جيمس جويس الذي ورد، في الأصل، في رسالةٍ كان قد أرسلها إلى أخيه ستانيسلوس، عندما كان الأول يقضي بعضًا من سنوات المنفى الذي فرضه على نفسه في مدينة ترِيَسْتة الإيطالية، هذا التصريح الذي يفيد بما معناه: «لقد وضعتُ عمدًا الكثيرَ من الألغاز والأحاجي التي سوف تُشغلُ بالَ الأساتذة الجامعيين طوالَ قرونٍ!»: وقد كان جويس يعي بالفعلِ ويعني بالقوة ما قاله فعليًّا، فيما له مِسَاسٌ بمسألة «الخلود» من منظور مقوِّمِ «الخلودِ» الثاني.
    [يتبع]…

    1. يقول حي يقظان:

      تصويب مطبعي في كلا القسمين،
      المُتَرَوٍّ بهِ / بها: المُتَرَوَّى بهِ / بها:

  5. يقول آصال أبسال:

    الأخ يقظان.. بتعليقاتك الثاقبة، أنت تذكِّرني بذلك /الإنسان المحض/ النيتشوي الذي ننتظره على الدوام.. كما كتبتُ في مكان آخر.. المفهوم الـ«فوق-إنسان» Übermensch، بحسب أفكار نيتشه شيء،ومفهوم السوبرمان بحسب أفلام هوليوود شيء آخر.. المفهوم التفوقي السوبرماني بحسب أفلام هوليوود مفهوم «إنسانوي» مفتعل لا يوجد إلا في الخيال السينمائي،بينما المفهوم الفوقي الأوبرمنشي بحسب أفكار نيتشه مفهوم إنساني غير مفتعل وغير عادي، لا بل أكثر إنسانية من «إنسانية» الإله نفسه.. مفهوم إنساني محض غير موجود في الواقع الفعلي، لكنه ليس مستحيل الوجود في هذا الواقع.. فنحن دائما ودائما بانتظاره، كما عبر عنه صامويل بيكيت في مسرحيته /في انتظار غودو/، أو كما عبر عنه ناظم حكمت في قصيدته /أجمل القصائد هي التي لم تكتب بعد/.. !!

إشترك في قائمتنا البريدية