تلك الليلة البغدادية اللامنسية

حجم الخط
34

نجم الدراجي كتب معلقاً على ما سطرته حول أكل حلوى الحشرات والديدان قائلاً إنه يفضل المطبخ الشرقي، وأضاف أنه كعراقي، لا يستغني عن (السمك المسكوف). هذا النوع من الطعام أنعش ذاكرتي على ليلة بغدادية لا تُنسى، ذقت فيها للمرة الأولى (السمك المسكوف) وكان أشهى طبق من السمك ذقته في حياتي حتى في مطاعم باريس ونيويورك ولندن الفخمة.. وقد ذقته ذات ليلة عراقية لا تنسى، وشكراً لنجم الدراجي الذي ذكرني بها.

ليلة مع الناصري والعزاوي

لم يكن إعجابي بالفن التشكيلي العراقي سراً، وكتبت عنه باستمرار، كما كتبت عن الجمال الفني لأعمال شاهدتها في بغداد.
وذهبت إلى معرض أقامه رافع الناصري للوحاته في إحدى (الغاليريهات) البيروتية أيام كانت بيروت عاصمة للالتقاء الفني مع المبدعين، وأعجبت بإبداعه، وكان الناقد الفنان وضاح فارس نصحني بذلك (وضاح أمه سورية ووالده عراقي، على ما أذكر) ولم أندم لأنني ذهبت، فقد كانت أعمال الراحل رافع الناصري فاتحة إعجابي بالفن العراقي في المجالات كلها. ولعل أفانين كبة أقامت معرضاً في بيروت فاتتني مشاهدته، لأنني كنتُ أقيم معظم الوقت في لندن، كما قد تكون شاركت في معرض الفن العراقي في بيروت.

العزاوي وصديقه الناصري

الجميل في الفنانين العراقيين الذين تعرفت إليهم من زمان أنهم لا يعرفون الغيرة من المبدع الآخر، بل ويروجون لأعماله. وهكذا ذات ليلة، كنت برفقة زوجي في بغداد، اتصل بنا رافع قائلاً إن الفنان ضياء رسم لوحات جديدة، وقلت له هل نستطيع مشاهدتها الليلة في مرسمه لأننا سنعود إلى بيروت غداً؟ وقال: نعم. سنمر بكما إلى «فندق بغداد» ونصطحبكما إلى مرسمه حيث أعماله. ولأن زوجي كان أيضاً من عشاق الإبداع الفني (رغم اهتماماته السياسية) فقد تحمس لذلك، وقال ضاحكاً: معرض فني لضياء العزاوي لنا وحدنا ليلاً وقت العشاء. وذلك رائع.
وأعجبنا بالتطور في لوحاته التي رسمها بعد إقامة في صحراء العراق لسبب ما، ثم غادرنا المرسم. وما كدنا نركب السيارة العتيقة التي جاءا بها لاصطحابنا حتى انهمر المطر.

تحولت السيارة إلى مركب!

لم أكن أدري أن في وسع بغداد أن تسخو بالمطر هكذا، فكأن نهر دجلة طار إلى الغيوم وانهمر.. وتعطلت السيارة القديمة ورفضت أن تتابع السير. وهكذا هبط منها رافع وضياء لدفعها من بركة ماء تجمعت في الشارع بسرعة، وكاد زوجي ينضم إليهما لكنهما رفضا، وقالا إنه ضيفهما، وعرضت المساعدة، وقال رافع ضاحكاً: أنت سيدة ونحن نحترم المرأة ونخدمها، وهكذا (غطسا) في بركة الماء حتى الركبة.. وصرنا نضحك إذ قاما بتسمية أحذيتهما المبتلة «بالمراكب»، وأخيراً هدأ المطر وتركت السيارة، وقررا أنهما لن يعودا بنا إلى الفندق بل إلى مطعم للعشاء.. وهكذا ذقت ليلتها (السمك المسكوف) الذي لم أذق يوماً ما هو أشهى منه.

مطعم خاو على نهر دجلة

وقرر رافع وضياء أن نأكل جميعاً «السمك المسكوف»، ورفضا قائمة الطعام، وقلت لنفسي: لم لا؟ سأجرب طعاماً جديداً، وهي دائماً وجهة نظر زوجي الذي كان يأكل في لندن الأخطبوطات الصغيرة، وفي روما الأصداف الحية بعد أن يعصر عليها الحامض فترتجف ثم يلتهمها.
ويا لبئس حلوى الحشرات والديدان مقارنة بالسمك المسكوف، الذي لم أحاول أصلاً السؤال عن طريقة إعداده، لأنني أعرف أنني لستُ (طباخة جيدة) والكتابة هاجسي، أما الكباب في كردستان العراق الذي ذكره نجم الدراجي، ورز العنبر الجنوبي، فأحب أن أتذوقهما في المطعم ذاته الخاوي على شاطئ دجلة، لكنني أعرف أن شيئاً لا يتكرر، وأعترف بابتعادي بمقدار ألف سنة عن حلوى الديدان والحشرات، كما ذكر نجم الدراجي، وأشمئز من مجرد فكرة التهام ذلك.
كان المرحوم رافع الناصري، سعيد الحظ بزواجه من الأديبة العراقية مي مظفر، التي أصدرت كتاباً عنه، وحملت الوفاء لإبداعه. وفي بيتي لوحات لرافع الناصري أهداني معظمها وأجملها، ترسم بأسلوبه الخاص سهراتنا في المقبرة، وتلك حكاية أخرى.

الرفاق والمقبرة

ذات ليلة، سهرت ورافع والفنان وضاح فارس في حي الزيتونة وملاهيه لأكتب لهم تحقيقاً حول ذلك لمجلة «الحوادث» (لم تعد تصدر)، ثم غادرنا الملهى وبعدها غادرنا حي الزيتونة، حيث ملاهي ما قبل الحرب، ومشينا على شاطئ البحر في اتجاه الروشة حين شاهدنا باباً حديدياً عتيقاً ودفعه وضاح فانفتح ودخلنا، رافع ووضاح وأنا، فوجدنا أنفسنا في مقبرة (لم تعد موجودة بعد الحرب اللبنانية) ودخلناها وتسكعنا بين القبور، وهذه الزيارات الليلية إلى المقبرة أوحت للفنان رافع بعدة لوحات أهداني بعضها، وما تزال بحوزتي، واحترق بعضها الآخر في مكتبتي أيام الحرب اللبنانية. وأدمنت السهر في المقبرة، فقد كان عالمي العربي في نظري قد تحول إلى مقبرة بعد هزيمتنا أمام إسرائيل في 5 حزيران (يونيو). كما أوحت لي بقصة قصيرة بعنوان «الرفاق والمقبرة» نشرتها في كتابي «ليل الغرباء».

ذكريات تلغي بعض الأحزان الحالية

لكنني سأظل دائماً أتذكر تلك السهرة العراقية التي بدأت باكتشاف أعمال فنية جديدة لفنان كبير هو ضياء العزاوي، وما هو أجمل منها انعدام مشاعر الغيرة بين المبدعين العراقيين، وحماسة رافع لأعمال ضياء. وأتساءل أحياناً، ترى هل أقيم في بيروت معرض للفنانة أفانين كبة، وكنت أعيش يومها في لندن؟! وهل عرضت بعض أعمالها في معرض للفن العراقي! كانت تلك المعارض كثيرة في بيروت، عاصمة الإبداع العربي قبل الحرب؟ ذكرى تلك الليلة البغدادية التي بدأت باكتشاف الإبداع لضياء ثم صارت ليلة مبتلة بالمطر، وانتهت أجمل نهاية في اكتشاف «السمك المسكوف» في مطعم عراقي مرمي على شاطئ دجلة، تلك الذكريات تجعلنا اليوم ننسى وباء كورونا وحرائق الغابات والحروب الآتية ربما بعد استيلاء «طالبان» على الحكم.
الزمن يمر ومعه كل يوم أحزانه الجديدة، ولكننا نتذكر ما كان كأننا نحتمي بالذكريات، حتى ولو كان سهرة في مقبرة بعد أن كانت بيروت مثلاً تتحول إلى مقبرة للأحلام القديمة عن مدينة كانت عاصمة الفن والمعارض الفنية والندوات، وصارت تعيش في الظلام بلا كهرباء ولا ماء ولا قارورة غاز للمطبخ ولا صفيحة بانزين للسيارة.. مدينة كانت عاصمة للتعارف مع الفن العربي الإبداعي وصارت نموذجاً للانهيار والأحزان والفقر، حتى صرنا نحتمي بذكرياتنا في بغداد وسواها، من واقع لبنان الذي كان عاصمة للفن العربي من كل مكان، وصار عاصمة للأحزان!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    أسعد الله صباحكم بكل خير لك أختي غادة السمان وللجميع. مع أنه صباح خريفي جميل وأنا أحب الفطور الذي تعودت عليه بالزيت والزعتر والزيتون الأخضر والأسود والجبنة واللبنة والمربى والمكدوس!، لكن تشوقت كثيرًا لأكل للسمك المسكوف لروعة ماوصفته لنا سيدتي. أما زيارة المقابر عند التسكع في الشوارع فهي حدثت لي أيضًا في إحدى ضواحي باريس لكن في أيام الأحد صباحًا حيث كانت الشوراع شبه خالية من الناس. أنا مقبرة القرية فيمر بها طريق وكنت أشعر ببعض الخوف عندما أمر به ليلًا رغم أني على وعي تام أن لاشيء غير عادي سيحدث وحتى لو حدث فلن يمون مخلوقات خارج الطبيعة فأنا لاأعتقد بأن مخلوقات خارج الطبيعة أي الجن تظهر لنا رغم أنها مخلوقات من الله لكنها لاتظهر لنا نحن البشر. مع خالص محبتي وتحياتي للجميع.

  2. يقول سوري:

    استاذنا الكبير نجم الدراجي المحترم
    أنت الاستاذ الكبير، وأشكرك من قلبي. جمعتنا الأيقونة، وجمعنا حب الأوطان لك مني أجمل تحية وللعراق حبي العظيم

  3. يقول سلام عادل(المانيا):

    تحية للسيدة غادة وللجميع
    بلا شك ان السمك المسكوف هو من اشهر اكلات السمك العراقية ولكن هناك في البصرة يجد المرء انواع اكثر شهية واسماك اخرى كالزبيدي والصبور والروبيان وكلها لها طرقها في الطبخ واما الكلام عن الفن التشكيلي العراقي فبلا شك ان هناك اسماء لامعة كثيرة اسست له واخرى رفعته لمصاف العالمية وجديدة تجرب وتجد طريقها ونتمنى ان يصلوا الى مدرسة عراقية خاصة بهم كما فعل شعرائنا المجددين

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      وأنا أيضاً من عشاق أسماك البحر!
      الزبيدي للقلي, والروبيان للقلي مع البصل, أما الصبور ففي تنور الخباز!!
      لا يوجد أصعب من أشواك الصبور المتفرعة, والتي تقف بالحلق, والقليل خبير بأكلها, فهل أنت منهم يا عزيزي سلام؟

  4. يقول حسين الجبوري:

    ذكريات رائعة

  5. يقول أفانين كبة - كندا:

    ليس هنالك من منافس للأستاذ نجم الدراجي في وصف روح بغداد ودجلتها ومسكوفها ، وهو الذي لا يتعب ولا يمٌل من التنقيب عن إرثها وتراثها في زوايا أزقتها وشوارعها وكأنه سومري قديم عادت به الحياة باحثا في جذروه العميقة منذ الآف السنين .
    شكرك سيدتي أنك تحملي هذا الوفاء الجميل عن ذكرياتك في بغداد ولمن استضافك فيها ، وأتمنى لو كنتُ من جيل الفنانين الكبار ، رافع الناصري وضياء العزاوي ، فسيكون لي الفخر أن أكون قد شاركت في تلك المعارض الفنية وسيكون لي الشرف الكبير لألتقي بك ياسيدتي ، لكنها كلها أمنيات وأحلام ، فأنا من جيل آخر يفصلني عنهم تقريبا عُقدين من الفارق الزمني ، كما تفصلني عنهم المسافة الجغرافية حيث غادرت العراق وأنا في بداية العشرينات من العمر وللأسف انقطعت كل الصلات تماما بيني وبكل ما يتعلق ببغداد وأهلها وأخبار نشاط فنانينها ، ووجدت طريقي الفني في المهجر لمواجهة النسيان وليقربني ويربطني بهواء السنوات التي عشتها في بغداد التي كما وصفتيها ( باللامنسية ) ، فالمهاجر دائما يسعى لحراسة ذكرياته من الزوال.
    أفانين كبة -كندا

    1. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      وهو كذلك أختي أفانين. نخن نعيش على الذكريات ونرفض أن تموت فينا فنموت. هي كجذور فينا إن قُطعت متنا.

  6. يقول لطيفة حليم:

    كم انا سعيدة وانا اقرا

  7. يقول الكروي داود النرويج:

    لا حول ولا قوة الا بالله

  8. يقول الكروي داود النرويج:

    ” ذات ليلة، سهرت ورافع والفنان وضاح فارس في حي الزيتونة وملاهيه لأكتب لهم تحقيقاً حول ذلك لمجلة «الحوادث» (لم تعد تصدر)، ثم غادرنا الملهى وبعدها غادرنا حي الزيتونة، حيث ملاهي ما قبل الحرب، ومشينا على شاطئ البحر في اتجاه الروشة حين شاهدنا باباً حديدياً عتيقاً ودفعه وضاح فانفتح ودخلنا، رافع ووضاح وأنا، فوجدنا أنفسنا في مقبرة (لم تعد موجودة بعد الحرب اللبنانية) ودخلناها وتسكعنا بين القبور،” إهـ
    زيارة المقبرة يا عزيزي أسامة لها قدسيتها بذكر الله ثم الموت!
    وهي من قضايا العصر المنسية!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  9. يقول الكروي داود النرويج:

    ليس الغريب غريب الشام واليمن …. إن الغريب غريب اللحد والكفن
    إن الغريب له حق لغربته …. على المقيمين في الأوطان والسكن
    لا تنهرنَّ غريبا حال غربته….. الدهر ينهره بالذل والمحن.
    سفري بعيد وزادي لن يبلغني….. وقوتي ضعفت والموت يطلبني
    ولي بقايا ذنوب لست أعلمها…. الله يعلمها في السر والعلن
    ما أحلم الله عني حيث أمهلني…. وقد تماديت في ذنبي ويسترني
    تمرُّ ساعات أيامي بلا ندم…. ولا بكاء ولا خوفٍ ولا حَزَنِ
    أنا الذي أُغلق الأبواب مجتهداً … على المعاصي وعين الله تنظرني
    يا زلةً كُتبت في غفلة ذهبت… يا حسرةً بقيت في القلب تُحرقني
    دعني أنوح على نفسي وأندبها…. وأقطع الدهر بالتذكير والحزَنِ
    دع عنك عذلي يا من كان يعذلني… لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني
    دعني أسحُّ دموعا لا انقطاع لها… فهل عسى عبرةٌ منها تُخلصني
    كأنني بين جلِّ الأهل منطرحٌ …. على الفراش وأيديهم تُقلبني
    وقد تجمَّع حولي مَن ينوح ومن…. يبكي عليَّ وينعاني ويندبني
    وقد أتوا بطبيب كي يُعالجني…. ولم أرَ الطب هذا اليوم ينفعني
    واشتد نزعي وصار الموت يجذبها…. من كل عِرقٍ بلا رفق ولا هونِ
    – من قصيدة لزين العابدين علي بن الحسين عن الغربة و الموت –

  10. يقول الكروي داود النرويج:

    النّفس تبكي على الدّنيا وقد علمت أن السّعادة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلّا التي كان قبل الموت بانيها فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنه وإن بناها بشرٍّ خاب بانيها أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدّهر نبنيها أين الملوك التي كانت مسلطنةً حتّى سقاها بكأس الموت ساقيها فكم مدائن في الآفاق قد بُنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها لا تركننّ إلى الدّنيا وما فيها فالموت لا شكّ يفنينا ويفنيها لكلّ نفس وإن كانت على وجل من المنيّة آمال تقوّيها المرء يبسطها والدّهر يقبضها والنّفس تنشرها والموت يطويها
    – للإمام علي بن أبي طالب عن الموت –

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية