جرياً على سياق الأنطولوجيات العالمية، التفت الأدب العربي إلى ما يحدث من تطوّرات في نسق البنيان العالمي للأنطولوجيات الأدبية، خاصة الشعرية، وعلى نحو أقل، القصصية. والأمر ينصب على اختيار المؤلف، أو المكلف من جهة أدبية، أو مؤسسة ثقافية، باختيار مجموعة من الأسماء، يرى أنها تمثّل الشعر، لهذا البلد أو ذاك، أو لهذا الجيل الشعري، أو غيره من الأجيال، التي درج عالم الثقافة العربي على تحقيبها، كل عقد لجيل بعينه، رغم ما يعتور هذا الحس التحقيبي، من خلل بائن في عدد السنوات الممنوحة للمبدع، ثم حصرها بعشر سنوات.
إنها في الواقع مشكلة فنية، رسّخها النقد العربي في البلدان العربية، ولاسيّما في العراق وسوريا ولبنان ومصر، بينما المغرب العربي، وجدناه قد أنصت لصوت الشاعر، وميزته الإبداعية، دون النظر في سنّه الشعري.
هناك أنطولوجيات تتخطى عامل التجييل العَشري، لتشمل أجيال شعراء البلد كله، أو تختص بحالة جيلين أو ثلاثة أجيال، كما حدث في بعض الأنطولوجيات العربية. في المقابل هناك أنطولوجيات تهتم بترجمة الشعراء، من العربية إلى اللغات العالمية، الإنكليزية، الفرنسية، الإسبانية، الألمانية، وربما الإسكندنافية أيضاً، وقد لمسنا ذلك في أنطولوجيات مختلفة، كانت قد أنجزت في هذا الشأن الترجمي.
منذ مطلع تسعينيات القرن المنصرم، راحت الترجمة تتوسّع في جميع البلدان العربية، فظهرت مجلات أدبية يديرها شعراء غالباً، تشجّع على ذلك، وتحض هذا الشاعر أو ذاك، المتمكّن من لغة ما، على ترجمة عدد من الشعراء، أو ترجمة بعض القصّاصين في أنطولوجيا ما، أو من لهم روايات قصيرة، وسِير ذاتية لافتة، تحمل هاجس الإمتاع والمغامرة الفردية، والاختلاف عن الآخر، حيث سعى البعض إلى ترجمتها، ونقلها إلى لغة أجنبية، آملين من وراء ذلك، أن يصل النص العربي، إلى لغة وعقل وتفكير ونمط وبيئة كائن آخر، مختلف في الهوية والمنشأ اللغوي.
كانت نهاية التسعينيات ومطلع الألفية، حافلين بالتراجم الإبداعية، تلك التي يقوم بها أفراد، أو مجموعة من الأصدقاء، تتكوّن من فردين أو ثلاثة أفراد، تجمعهم رؤية واحدة، وحس ثقافي مشترك، وشغف معرفي في نقل النصوص الإبداعية، العربية إلى لغات العالم. ومن هنا ظهرت ترجمة الشاعر عبد القادر الجنابي إلى الفرنسية، تلك التي جمعت شعراء عرباً من كل البلدان، لتقديمهم إلى لغة بودلير وفيكتور هوغو، وقد تمّ كما هو متعارف عليه في الترجمات، الركون إلى ذائقة مُعد المختارات، الشعرية والأدبية، في اختيار من يراه مناسباً لمختاراته، وهذا من حقّه، كونه هو من يقوم بالاختيار، والإعداد والترجمة، وحتى مسألة النشر، فتراه قد اتفق مع دار نشر، أو مؤسسة ثقافية تتولى هذا الأمر، وإلا لما أقدم أي مُعد للمختارات على مغامرة كهذه، غير مأمونة الجوانب، ولاسيّما في مسألة الشعر، ومطبّات نشره في هذه الأزمنة الصعبة. وينبغي ألا ننسى تلك الترجمات لمختارات من الشعر العربي والعراقي، لكل من خالد المعالي إلى الألمانية، وشوقي عبد الأمير إلى الفرنسية، وسعدي السماوي وسنان أنطون والليبي خالد مطاوع إلى الإنكليزية، وترجمات بعض الأنطولوجيات المغربية والتونسية إلى الفرنسية، وترجمات مصرية لمجموعة من الشعراء، إلى الفرنسية والإنكليزية وغيرها.
كانت نهاية التسعينيات ومطلع الألفية، حافلين بالتراجم الإبداعية، تلك التي يقوم بها أفراد، أو مجموعة من الأصدقاء، تتكوّن من فردين أو ثلاثة أفراد، تجمعهم رؤية واحدة، وحس ثقافي مشترك، وشغف معرفي في نقل النصوص الإبداعية، العربية إلى لغات العالم.
وحين اقتربنا من عام ألفين، هدأت الترجمة إلى حدّ ما، لتعاود الظهور بعد مرور عقدين من الزمان بصدور مختارات تشمل الشعراء العرب، من كل البلاد العربية، وإلى جانبها ظهرت مختارات تجمع شعراء بلد معيّن، في مختارات شعرية ما، ومن ضمن هذه الخيارات تم اختيار كاتب هذه السطور، من مؤسسة «كتاب في جريدة» لعمل مختارات شعرية عراقية. في البدء ترددت في حمل هذه المهمة، لما تحمله من إشكالات والتباسات، وربما انزلاق لمقتربات صداقية، قد تأخذني لهذا الشاعر أو ذاك، لكن بعد تمحيص، وتدقيق في الأمر، بيني وبين المنفّذ لهذا المشروع، وهو الشاعر شوقي عبد الأمير، رضخت في النهاية، لهذا المطلب الجمالي، خدمة للشعر والشعراء والأدب العربي.
كان الرأي قد توقّف، على أن تضم المختارات الشعرية العراقية المنوي عملها، شعراء من ثلاثة أجيال شعرية، هي الستيني والسبعيني والثمانيني، وألا ندرج ضمن هذه المختارات من صدرت له مختارات عن هذه المؤسسة الثقافية، خاصة به، تشمل كل منجزه الشعري، وهي مختارات تحتفي بالمتفرّدين الكبار من شعراء العربية، كما جرى مع الشاعرين سعدي يوسف، وحسب الشيخ جعفر. لذا سيكون من المؤكد ألا تشمل المختارات سعدي يوسف، لمسألتين، الأولى تتمثل بكونه من جيل الخمسينيات، ورائداً في خطه الشعري، وثانياً أنه قد صدرت له مختارات خاصة به عن المؤسسة ذاتها «كتاب في جريدة» أسوة بالشعراء الكبار، أدونيس ومحمود درويش وأنسي الحاج والماغوط وغيرهم.
بالنسبة لي وعلى الصعيد الشعري، أقدّر وعلى درجة كبيرة، تجربة الشاعر حسب الشيخ جعفر الشعرية، وهو من أحب الشعراء إلى قلبي، الذي لم تضمّه المختارات حسب الاتفاق الذي بينته أعلاه، وكذلك لم تضم المختارات الشاعر فوزي كريم، وهو الشخص الأول الذي فاتحته بهذا المشروع، غير أن فوزي كريم وهو شاعر مطبوع، ومعروف وصديق مقرّب جداً، رفض الانضمام للمختارات، ولم يبيّن سبباً لذلك، وهنا احترمت من جهتي خياره الشخصي.
لهذه الأسباب الآنفة، كان غياب الشعراء الثلاثة الكبار عن المختارات، سعدي يوسف، حسب الشيخ جعفر، وفوزي كريم، وهذا التوضيح يأتي كرد على ما أثير من أقاويل، وحكايات، وشائعات حينها، ليست صحيحة، ولم تكن أبداً في محلها.
حين شرعت بإعداد المختارات، راعيت أن أكون عادلاً، ومخلصاً، ومنصفاً في اختياراتي الشعرية، لنصوص الشعراء، شرط أن تحمل طابع التميّز والتفرّد والتجديد الحداثي، لذا حين صدرت المختارات، طالتها اليد النقدية، وكان النقد في الغالب مرحّباً، والآخر الذي وجد فيها نقيصة، أدلى بملحوظاته الفنية، وهذا من حقّه التعبيري، في قول ما يرتئي ويشاء. المهم في الأمر، أن المختارات شملت شعراء المنافي، وشعراء الداخل، لقد كنت محرجاً دائماً في الاختيار، بسبب عدد الأسماء التي انحصرت بعشرين شاعراً، ومن ثلاثة أجيال بارزة في العراق الشعري، ولهذا انشرحت لغياب شاعر، ينسحب طوعاً من المختارات، أو يكون قد صدرت له مختارات احتفائية، خاصة به، لكي يكون في وسعي إضافة المزيد من الشعراء. وبالمناسبة كان المحرر المسؤول كريماً معي، في إضافة ملزمة أخرى للصفحات المعلومة، والمحدودة، فبدلاً من اختيار عشرين شاعراً، توصّلنا إلى اختيار ثلاثين شاعراً، لكي يأخذ الشعر العراقي مداه الجمالي، ومساحته التعبيرية التي يستحقّها.
وحين انطوى عقدان بعد الألفية الجديدة، عاودت الأنطولوجيات الشعرية بالظهور، وعلى نحو أوسع وأشمل، ولاسيّما المترجمة إلى الإنكليزية، باعتبارها اللغة الأولى، إذ ظهرت أنطولوجيا، وهي عبارة عن موسوعة عالمية تحت عنوان « شجرة شعر العالم» ضمّت شعراء من بلدان العالم كله، وهو جهد جبار وفريد، قام به الشاعر الإماراتي عادل خزام، حيث تم توفير وعرض وإتاحة هذه الترجمة إلكترونياً، وعلى نطاق واسع وعالمي.
ولم تمر سوى شهور على مختارات «شجرة شعر العالم» حتى انبرى عدد من الشعراء السوريين، الموجودين في المنفى، إلى إصدار أنطولوجيا شعرية عربية بالإنكليزية، تبنتها المجلة الشهيرة « إنكاونترز» بإصدار عدد خاص من المجلة، مُكرّسا كل صفحاته لعدد من الشعراء العرب، وهذا الجهد الشعري قام به شاعران سوريّان، هما أسامة إسبر وأكرم قطريب، المقيمان في الشتات العالمي، كان عدد المجلة لافتاً، ولاقى ترحيباً في الأوساط الثقافية، العربية والأجنبية.
كاتب عراقي