بيروت ـ «القدس العربي»: تُطوى الليالي والنهارات ومعها يتضاعف هول ما حلّ بالبشر والحجر فجر السادس من شباط/فبراير 2023. وكل يوم مضاف يحمل المزيد من الأسئلة، عن الذين ما زالوا يتنفسون تحت الركام، وعن المشردين دون سقف وفي برد قارس.
بين تركيا وسوريا بشر جمعهتم الكارثة، ينظرون إلى المجهول الذي ينتظرهم بعد أن قضى الآلاف تحت الأنقاض. وبين تركيا وسوريا بشر في صدمة واضحة من تلك الكارثة. والسؤال كيف ومتى ولمن يجب تقديم الدعم النفسي؟
مع المعالجة النفسية والأخصائية في الدعم النفسي الاجتماعي غريس نخّول هذا الحوار:
○ بين تركيا وسوريا نكب الزلزال الملايين وطمر أحبتهم تحت ركامه. هل الاضطراب أو الصدمة النفسية ستعمُّ الجميع؟
•في الوهلة الأولى تعمّ الصدمة الجميع. إنما لبعضهم مرونة تسمح بالتعامل مع الصدمة، ويعود ذلك لأسباب عدّة. منها متوفر لدى العائلة، كأن تمتلك قدرة مساندة أبنائها بمستوى جيد. إلى تعليمهم أساليب للتعامل مع مشاكل وضغوطات الحياة. ونضيف كذلك شخصية الطفل ومدى المرونة التي يتمتع بها للتعامل مع الضغوطات التي قد تستجد في الحياة. وبعضهم لا يمتلك تلك المرونة لكونهم لم يتلقوا المساعدة من الأهل في الصغر. إذاً نحن حيال المرونة التي تساعد للخروج من الصدمة أو للاستمرار فيها، وهذا ما يقاس بالدرجات وليس متساوياً بين الجميع.
○ وصلني من اجابتك أن المرونة في مواجهة الكوارث ناتجة من تأهيل وتربية أكثر منها جينات نورثها؟
•بل نحن نتيجة الإثنين معاً. مرونة متلازمة مع شخصية الفرد، يضاف إليها آليات التكيُّف مع الصدمة. وفي مواجهة الصدمة نحن حيال مستويات ثلاثة من الأشخاص. منهم من يواجه خلال الصدمة. سأتخذ من نفسي مثالاً، بعد الصدمة سأتوجه لمساعدة من يحتاج للدعم النفسي. آخرون قد تجمدهم الصدمة، يختبؤون وينتظرون. والمستوى الثالث هو الهروب عبر النوم أو تناول الكثير من الطعام، بهدف نسيان الصدمة. وهنا أشدد على دور الأهل في التنشئة على المرونة النفسية في التعامل مع أمور الحياة. ونؤكد على التنشئة كون الأطفال سيكبرون ويصبحون فيما بعد مسؤولين وأهل.
○ كيف يُعبّر الناس عن معاناتهم في وضع كما الزلزال؟ وما هي مظاهر الإضطراب أو الصدمة؟
•مظاهر التعبير المشتركة تتمثّل بمشاكل في النوم، والقلق. منهم من ينام ولا يرغب بالاستيقاظ. بعضهم ينام بمساعدة الدواء. نلمس بالعين المجردة كثيراً من الحزن والاكتئاب، وحركة زائدة، وغضباً، وعدم قدرة على التحكم بالمشاعر والبكاء الفجائي. بعضهم تعطي عيونهم انطباع الضياع، أو نلمس منها المشاعر المسطحة. نسألهم عن مشاعرهم فيعبرون بأنهم يعيشون اللاشعور. وثمة أعراض تتمثل بالتعب. وأخرى بفقدان الشهية أو الإفراط في الطعام، أو صعوبة التركيز، والإنعزال عن الآخرين وتخفيف النشاط. منهم من يعاني من آلام في الرأس، أو غيره من الجسد. إلى آلام البطن، ولا يُدركون أن الصدمة هي التي سببتها. والآم البطن غالباً ما تصيب الأطفال. وهذه الأعراض مشتركة لدى البالغين والأطفال.
○ وما هي نسبة الناس الذين يعيشون نوعاً من الاضطرابات أو أكثر؟
•لا شك بأن دراسات عدة سيكون لها دورها في المرحلة التالية للإنقاذ والاسعاف. لكننا نعرف أن الاضطرابات تتبع الكوارث كما الزلازل. وعادة يلجأ الناس للمعالجين النفسيين إن لم يتمكنوا من التعامل مع الأمر منفردين. وننصح من تستمر لديهم الأعراض لأكثر من شهر بعرضها على معالج نفسي.
○ هل من آثار تصيب الأطفال دون البالغين؟
•الأطفال دون السبع سنوات يتمسكون بذويهم بقوة. كما يعبرون عبر نوبات بكاء دون سبب مباشر ومهم. ومنهم من يعيش تبولاً لا إرادياً ليلاً، أو يعودون لمص الأصابع بعد توقف. وفي المدرسة قد يتشاجرون مع زملائهم، أو لا يركزون، أو ينعزلون. وقد يلجأ المراهقون للدخان أو الكحول، أو الأدوية المساعدة على النوم. وهؤلاء الأطفال أو المراهقين يعتقدون أنهم يمرون بما هم فيه وحدهم.
○ عندما تعمُّ الصدمة هذا العدد الهائل من البشر هل يختلف وقعها عليهم؟
•إنه أحد جوانب التكيف. كمعالجين وخلال العمل على الأرض بعد الصدمات نستعمل هذا الأسلوب، ونقول لمن نعالجهم «في كتير غيركم يمرون بالظروف نفسها». لكن في كارثة الزلزال نحن حيال مشاهد مؤلمة للغاية. انما قد نقول حمد لله الضرر علينا أقل. وقد نرتاح لهذا. وطبيعي أن يردد الإنسان البالغ هذا القول.
○ وماذا عن عقدة الذنب التي يعيشها البعض لماذا مات هؤلاء وليس أنا؟
•هذا ما يحدث مع البشر أصحاب المشاعر الإنسانية العالية جداً. وهذا الإحساس التعاطفي يدفع البعض للسفر والوصول إلى حيث الحاجة للمساعدة ومد يد العون. وهذا ما شاهدناه في حالة سوريا على شاشات التلفزيون ووسائل التواصل الإجتماعي. إنها وسيلة للتكيف قد يتميز بها البعض.
○ ما هي أولويات الدعم التي يحتاجها هؤلاء الناس؟
•إن كنّا حيال المنتشرين في مكان الكارثة فهؤلاء يحتاجون ما يُسمى بالإسعافات النفسية الأولية. وهذه الإسعافات تتمثل بالتعاطف والإستماع لهم، واتاحة الفرصة لهم كي يتكلموا ويعبروا. ليس لنا أن نتكلّم ونرشد في هذه المرحلة، فالأشخاص الذين نقف إلى جانبهم لا يملكون قدرة التركيز، ولا قدرة الاستماع. لذلك يكفيهم أن نجالسهم بتعاطف، ونشعرهم بوجودنا. وبمجرد شعورهم بالاطمئنان قد يحكون ما يشعرون به. في علم النفس نرى أن نصف العلاج قد تمّ عند الكلام عن ما يزعج الإنسان. مع التأكيد وبين هلالين أننا لم نبدأ بعد مرحلة العلاج. ومع الإشارة بأن من يتكلّم يكون في وضع أفضل من الذي يصمت ويخفي مشاعره داخله. أما العلاج فقد يخصص لمن يعيش اعراضاً بعد شهر من وقوع الكارثة. إضطراب ما بعد الصدمة يبدأ بعد شهر ويعرف بـ PTSD وتتمثل هذه الأعراض بالكوابيس، وباستعادة الحدث وكأنه يحصل للتو، ويترافق ذلك مع دقّات قلب متسارعة، وارتجاف وتعرّق. عندها من الصعب على المرء التعامل فردياً مع تلك الأعراض، ولا نقول باستحالة ذلك، انما من الأفضل ذهابه نحو العلاج.
○ مع فقدان الأحبة والنوم في العراء ألا يصبح البحث في صحة الناس النفسية ترفاً؟ وهل هو سؤال مشروع إنسانياً؟
•إن فعلنا وذهبنا للناس لنقول لهم أنتم تحتاجون لعلاج فهذا غير مقبول. من يحتاج لعلاج هو من سيقرر. ولدى العيش مع أعراض PTSD والعذاب الذي يعانيه الإنسان بشكل يومي، عندها لن يكون اختيار العلاج ترفاً على الإطلاق. من يقصد العلاج النفسي يهدف للتخفيف من عذابه، بعد فشله في مساعدة ذاته. ثمة جمعيات تؤمن العلاج النفسي لغير القادرين على تحمّل تكاليفه. العلاج النفسي لم ولن يكون ترفاً في يوم. وليس عدلاً وجود قادرين على العلاج النفسي وتحمّل تكاليفه، ووجود عاجزين عن الوصول إليه نظراً لكلفته.
○ بحثاً عن المستقبل هل يتمكن هؤلاء الناس الذين فقدوا غالبية أحبائهم من بناء حياة جديدة لهم في الأمكنة نفسها؟
•وهذا أيضاً ما يعتمد على شخصية الإنسان ومدى مرونته. وإن كانت لديه القدرة النفسية على مواجهة الصدمات التي عاشها. نعم من يستطيعون بناء حياة جديدة في الأمكنة نفسها هم اشخاص مرنون جداً. وهذه المرونة أمدتهم بالصلابة النفسية، ولهذا هم قادرون على الوقوف مجدداً واستعادة الحياة وحتى مد يد المساعدة. ومن يتمكن من المساعدة في مثل ظروف الزلازل هم قادرون على مواجهة الصدمات النفسية وتجاوزها أكثر من سواهم. أن نكون في قلب الحدث ونمد يد المساعدة حتى وإن كان عبر اتصال هاتفي، فهذا جزء من مواجهة للصدمة. الإحساس بمد يد المساعدة يساهم برفع مستوى هرمون الإندورفين والدوبامين والسيروتونين الذي نحتاجه لنشعر بأننا فاعلون. إنها آلية تكيف يمكن إعتمادها للخروج من الصدمة.
○ وماذا عن التعافي من الصدمة والعودة للحياة الطبيعية أو شبه الطبيعية؟
•ثمة طرقاً معتمدة من قبل المعالجين للدعم النفسي. على سبيل المثال بعد تتالي الهزات الصغيرة الإرتدادية جميعنا كنّا في ترقب. شعر البعض أحياناً بإرتجاج وهمي. عبّر البعض عن احساسهم بضربات قلب سريعة وبرجفة. ما يلي تلك الهزة الخفيفة يتمثّل بإتقان التنفس العلمي والصحي وبخاصة تعليمه للأطفال. التنفس العلمي يساعد بإدخال الأوكسيجين إلى الدم وتالياً إلى الدماغ. فالكورتيزول «هرمون التوتر والقلق» الذي رُمي بكميات كبيرة في الجهاز العصبي خلال لحظات الخوف، يجب أن يتراجع من خلال التنفس الصحي والعلمي. إذاً للتنفس تقنية خاصة، كأن نعد للخمسة خلال الشهيق مع جعل البطن يمتلئ، وفي الزفير نعد للسبعة مع ابتلاع البطن للداخل. تمرين التنفس هذا يخفف من القلق والتوتر لدى البالغين والأطفال بعد لحظات من الصدمة. وهذا بالطبع ليس مطروحاً في حال الزلزال الكبير كما حدث في تركيا وسوريا، بل يمكن اعتماده بعد توتر وقلق متوسط كما كان حال الزلزال في البلدان المحيطة بسوريا كلبنان. كذلك تكون مجالسة من نرتاح لهم في ظروف مماثلة مهمة، والبوح أمامهم بمشاعرنا. وننصح الأهل بالتواصل الدائم مع الأطفال والصدق الكلّي. أي أن لا نعدهم بما لا نعرفه، ويكون الرد على اسئلتهم بما يتناسب مع اعمارهم. الأطفال يحتاجون للإطمئنان. والقلقون منهم يحتاجون لخطة يتدربون عليها. نخبرهم بأن الهزات يمكن أن تتكرر، ونحن مستعدون للوقاية ومغادرة المنزل حيث لدينا بعض ما نحتاجه في السيارة. وهذا ما يُشعر الطفل بالراحة نسبياً.