مع تداعيات الهجمات الأوكرانية على الداخل الروسي، بدأ الغرب يستعيد سياساته الداعمة لكييف بشكل أكبر، بعد تراجع واضح على مدى الأشهر الستة الأولى من العام الحالي 2024، لذلك جاءت دعوة وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن الدول الغربية إلى زيادة المساعدات لأوكرانيا مع اقتراب فصل الشتاء. إذ صرح في اجتماع أعضاء مجموعة الاتصال الدفاعية الخاصة بأوكرانيا في قاعدة رامشتاين في ألمانيا قائلا: «هذه لحظة حرجة وتوقيت بالغ الأهمية، خاصة مع اقتراب فصل الشتاء».
وأكد أوستن أنه يتطلع إلى مناقشة سبل تعزيز المجمع الصناعي العسكري في أوكرانيا والدول الغربية. وفي حين وضعت كورسك روسيا في موقف دفاعي، حذّر أوستن في تصريحات إعلامية قبل اجتماع مجموعة الاتصال الدفاعية الأوكرانية قائلا، «نحن نعلم أن مكر بوتين شديد». ومع استمرار الهجمات والغارات الجوية الروسية، جدد زيلينسكي دعواته للولايات المتحدة إلى تخفيف القيود على استخدام الأسلحة، والحصول على قدرات عسكرية غربية أكبر لضرب عمق روسيا.
في 3 أيلول/سبتمبر الجاري، أكد ضابط وكالة المخابرات الأمريكية السابق بيتر شرودر في مقال لصحيفة «فورين أفيرز»، أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على تغطية احتياجات أوكرانيا من الذخيرة بشكل كامل، حتى لو زادت أحجام الإنتاج في عام 2025. وأشار إلى أن كييف ستحتاج في المستقبل إلى المزيد والمزيد من الجنود، والدول الغربية مستعدة فقط لتدريب الأفراد العسكريين الأوكرانيين، لكنها لا ترغب في إرسال قواتها إلى منطقة القتال.
كان الكرملين يعاني من صراع داخلي مستمر داخل الجيش الروسي ويتوقع بقلق هجوما أوكرانيا مضادا. واتخذت موسكو خطوة تصعيدية كبرى بنشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا
منذ انطلاق الغزو الروسي في 24 شباط/فبراير 2022، أشار بوتين مرارا وتكرارا إلى القوة النووية الروسية، لتثبيط التدخل الغربي، وقد انتقدت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي التهديد النووي، لكنهما قالا إنهما لم يريا أي تغييرات في الموقف النووي الروسي تستحق الرد، لكن بعد النكسات المبكرة في أوكرانيا، قال بوتين إن موسكو مستعدة لاستخدام «كل الوسائل» لحماية الأراضي الروسية، ما أثار مخاوف من أنه قد يلجأ إلى الأسلحة النووية التكتيكية لوقف تقدم كييف. لكن سرعان ما خفف بوتين من خطابه بعد أن فشل الهجوم المضاد لأوكرانيا في عام 2023 في تحقيق أهدافه. وسط النجاحات العسكرية الروسية الأخيرة، قال بوتين، إن موسكو لا تحتاج إلى أسلحة نووية للفوز في أوكرانيا. ولكن في الوقت نفسه، حذر من أن الضربات التي تشنها كييف على الأراضي الروسية بأسلحة بعيدة المدى مصدرها من الغرب، من شأنها أن تشكل تصعيدا كبيرا لأنها ستشمل أفرادا من الاستخبارات والجيش الغربيين، وهو ما ينفيه الغرب. ويتوقع عدد من المراقبين إن تصريحات الرئيس الروسي حول تغيير العقيدة النووية لها صلة بالهجوم الأوكراني على كورسك، حيث شكل هذا الهجوم ولأول مرة تهديدا حقيقيا للتراب الروسي. وقد قرأ ماكسيم ترودوليوبوف الباحث في السياسات الاستراتيجية، الحديث النووي الذي يطلقه بوتين بين الحين والآخر كتهديد للولايات المتحدة والدول الغربية، لمنعها من دعم أوكرانيا في استعمال الذخائر الغربية، لتنفيذ ضربات عسكرية كعلامة على الضعف الروسي. إذ كان بوتين يستجيب لعدم نجاح الجيش الروسي بشكل كبير في ساحات القتال في أوكرانيا بعد أشهر من القتال والخسائر الفادحة، فقد استولت القوات الروسية على بلدة أفدييفكا في شرق أوكرانيا في فبراير الماضي، ولكن لم يتم تحقيق أي اختراق منذ ذلك الحين. ومع وصول أسلحة جديدة من الولايات المتحدة وأوروبا إلى أوكرانيا، بدأت الميزة العسكرية الروسية في التضاؤل. ومنذ بداية الحرب في أوكرانيا، يضغط الصقور في الإدارة الروسية على الرئيس بوتين لإجراء مراجعة للعقيدة النووية الروسية، التي تنص على أن موسكو يمكنها استخدام الأسلحة النووية رداً على ضربة نووية، أو هجوم بأسلحة تقليدية يهدد «وجود الدولة الروسية». ويزعم بعضهم أن هذه العتبة مرتفعة للغاية، الأمر الذي يترك لدى الغرب انطباعاً بأن الكرملين لن يمس ترسانته النووية أبداً. وحث المحلل دميتري ترينين من معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية، وهو مركز أبحاث في موسكو يقدم المشورة للكرملين، على تعديل العقيدة، بحيث تعلن أن روسيا يمكنها استخدام الأسلحة النووية عندما «تكون المصالح الوطنية الأساسية على المحك»، كما هو الحال في أوكرانيا. وقال ترينين: «من المهم إقناع النخب الحاكمة في الولايات المتحدة وفي الغرب ككل، بأنها لن تكون قادرة على البقاء مرتاحة ومحمية بالكامل بعد إثارة الصراع مع روسيا». ويعرف المراقبون أن الدعوة إلى توجيه ضربة نووية استباقية ضد أهداف غربية هي مشروع رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع في روسيا سيرجي كاراجانوف. وهو مشروع عمل عليه على مدار العام الماضي، ففي حزيران/يونيو 2023، بدأ كاراجانوف حملته، إذ كان الكرملين يعاني من صراع داخلي مستمر داخل الجيش الروسي ويتوقع بقلق هجوما أوكرانيا مضادا. وخلال الشهر نفسه، اتخذت موسكو خطوة تصعيدية كبرى بنشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا. والكل يتذكر ما حدث في سبتمبر/أيلول 2022، ففي لحظة ضعف بعد نجاح أوكراني كبير في منطقة خاركيف، أصدر بوتين تهديدا نوويا، وأعلن التعبئة الجزئية للصواريخ النووية قصيرة المدى.
وفي اجتماعات منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي، التي عقدت طوال أسبوع في يونيو الماضي قال كاراجانوف مخاطبا بوتين: «كانت هناك آلية أمان نووية أصبحت الآن ضعيفة بشكل خطير. كان صمام الأمان هو توازن الرعب، أو الخوف من اندلاع الحرب النووية». وأوضح كاراجانوف إن السياسة المطلوبة للفوز بالحرب الأوكرانية تحتم على روسيا أن تتسلق «سلم التصعيد النووي» وأن تكون مستعدة لاستخدام الأسلحة النووية.. وأضاف في جلسة علنية: «أنا صياد، وأعرف كيف تتصرف الحيوانات، إذا هاجمتك مجموعة من الكلاب البرية أو الضباع وكان لديك عصا، فيمكنك ضربها، وهناك فرصة لإبعادها. ولكن على الأرجح سوف تمزق سروالك وساقيك، وإذا تعبت، فسوف تقضمك. ولكن إذا سنحت لك الفرصة لقتل اثنين، فسوف تتشتت البقية، وهذا أمر مضمون».
في المقابل قالت هيذر ويليامز الزميلة البارزة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن إن، «الاعتماد على التهديدات النووية يمثل اتجاها دائما في أنشطة روسيا في خضم الحرب الدائرة في أوكرانيا». وأضافت «قد تفترض القيادة الروسية أن لديها ما هو على المحك في أوكرانيا أكثر من الناتو، وأن التهديدات النووية هي إحدى الوسائل الروسية للإشارة إلى التزامها بالفوز بالحرب على أمل منع التدخل الغربي».
لكن كما قد يخبرك معظم خبراء نظرية اللعبة السياسية، إن اللاعب الذي يلجأ إلى تكتيك اللعب على حافة الكارثة، كثيراً ما يفقد مصداقيته. وقد لاحظت روز جوتيمويلر نائبة الأمين العام السابقة لحلف شمال الأطلسي، إن «تكرار موسكو للتهديدات النووية يمثل سلوكا غير معتاد بالنسبة لقوة نووية عظمى. فمنذ أزمة الصواريخ الكوبية، تجنبت القوى النووية الكبرى مثل هذا الابتزاز». وأضافت: أن «الخطر يكمن في أن موسكو ربما تعمل على تطبيع الابتزاز النووي كأداة سياسية». وعلى الرغم من لجوء الكرملين إلى التهديدات النووية عندما تشعر موسكو بالضعف، إلا إن الترسانة النووية الروسية تبقى حقيقة مرعبة، ويبقى الخوف من تحول التهديد النووي في لحظة فارقة إلى فعل كارثي على الوجود الإنساني.
كاتب عراقي