لماذا احتاجت واشنطن وتل أبيب أحد عشر يوما للاقتناع باستحالة تحقيق انتصار ساحق على الفلسطينيين في غزة؟ فمنذ اللحظات الاولى كان واضحا أن موازين القوى قد تغيرت لغير صالح الاحتلال، سياسيا وأخلاقيا وإعلاميا، وحتى عسكريا. فاذا لم يكن ذلك واضحا لدى أصحاب القرار وأجهزة الاستخبارات، فإن ذلك فشل آخر يضاف لقائمة طويلة من الإخفاقات التي منيت بها سلطات الاحتلال في السنوات الأخيرة.
هل كان هؤلاء يعتقدون أن هرولة بعض الحكومات العربية للتطبيع مع «إسرائيل» سيغير موازين القوى سياسيا لصالح الاحتلال وضد أهل فلسطين؟ هل كان نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وصمت العالم على ذلك مؤشرا كافيا لرجحان كفة الاحتلال؟ وهل كانت رعونة ترامب كافية لتشويه الحقائق وتغيير مسار التاريخ؟ ثمة فرق كبير بين القرارات السياسية والعدوان العسكري الذي هزّ ضمير البشرية، فخرجت الاحتجاجات والتظاهرات في أغلب بلدان العالم. إنه تغيّر جوهري لغير صالح «إسرائيل» ومضاد لسياسة أمريكا تجاهها. وتفاقمت مشكلة الاحتلال عندما ظهرت وقائع جديدة فشلت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والغربية في التنبؤ بها. ومن ذلك ما يلي:
أولا: إن سياسات القمع التي انتهجتها قوى الثورة المضادة في السنوات العشر الأخيرة (أي منذ قمع ثورات الربيع العربي) ربما أدت لضمور التفاعل الشعبي مع قضية فلسطين، ولكن ذلك ظاهرة مؤقتة لا تتصل بمشاعر الأمة بشكل وثيق لأنها مناقضة للمشاعر الفطرية لدى الجماهير ومفروضة بفعل الإعلام الموجّه والسياسات القمعية التي تصر على إخفاء الحقيقة وفرض مسارات وهمية على الشعوب. لذلك ما أن بدأ العدوان حتى خرجت الاحتجاجات في كل مكان حتى العواصم التي تصدّر حكامُها ظاهرة التطبيع. وعلى العكس مما توقعه مروجو التطبيع، فقد تجددت مشاعر الانتماء للأمة وفلسطين بشكل خاص لدى مواطني الدول التي هرول حكامها للتطبيع مع حكومة بنيامين نتنياهو التي تمثل أقصى مستويات التطرف والغرور والصلف.
ثانيا: إن هناك تحولا في المزاج الدولي على مستوى الجماهير غير مسبوق. ففيما كانت الاحتجاجات ضد العدوان الإسرائيلي في العقود الماضية محصورة بالعالم العربي، كانت الاحتجاجات والتظاهرات هذه المرة تنطلق في العواصم الغربية والشرقية على نطاق غير مسبوق. وأصبح واضحا تلاشي التعاطف مع الكيان الإسرائيلي على المستوى الجماهيري وإن كانت الحكومات تساير الحكومة الأمريكية في التواصل الدبلوماسي مع «إسرائيل». ومنذ سنوات كان الإسرائيليون يشتكون مما أسموه «تصاعد العداء للسامية» في الغرب. ويقصدون بذلك تلاشي التعاطف مع السياسات الإسرائيلية وليس العداء المؤسس على الدين او العرق، برغم المحاولات الإعلامية للتشويش على ذلك.
هذا التغير في المزاج العام الغربي أصبح مصدر قلق بالغ لدى الإسرائيليين وداعميهم. فبرغم منع التظاهرضد العدوان الأخير من قبل السلطات الألمانية والفرنسية، إلا أنها فشلت في إخماد الاصوات المتعاطفة مع غزة وشعب فلسطين، فخرجت المظاهرات العملاقة الداعمة لفلسطين وأهلها التي لم تشهد هذه العواصم مثلها في السنوات الأخيرة. هذا التغير ستكون له أبعاد استراتيجية مستقبلية خصوصا بعد أن استمر أمد الأزمة ثلاثة أرباع القرن.
عاش المستوطنون حالة من الذعر غير مسبوقة، حيث صفارات الانذار لا تتوقف والصواريخ تمطر عليهم من السماء. وبرغم وجود منظومة دفاع قوية تحت مسمى «القبة الحديدية» فقد تم اختراقها على نطاق واسع
ثالثا: إن حكومة نتنياهو ارتكبت أخطاء كبيرة عندما هرعت لاستغلال الظروف التي صاحبت رئاسة دونالد ترامب، معتقدة أنها فرصة ثمينة لتثبيت المنظور الإسرائيلي وفرضه على السياسات الغربية. ويمكن القول أن تلك السياسات أصبحت وبالا على «إسرائيل» التي قبلت بالتحالف مع ترامب الذي أصبح رمزا ممقوتا داخل بلاده وفي العالم. ويرتكب الحزب الجمهوري الأمريكي في الوقت الحاضر خطأ مماثلا سيُضعف الحزب وموقعه في نفوس الأمريكيين. فالظاهرة الشعبوية التي ساعدت ترامب على الوصول إلى السلطة تقترب من الفاشية والنازية التي ساهمت في اضطهاد اليهود أنفسهم واستهدافهم على نطاق واسع. وجاء العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة في أجواء دولية غير ودّية لـ «إسرائيل» المرتبطة بكل من نتنياهو وترامب. لقد اعتقد الإسرائيليون أن بإمكانهم القفز على حقائق التاريخ باستغلال السياسة الأمريكية في عهد رئيس غريب الأطوار والأفكار والتوجهات. كان بإمكانهم الإستفادة من بعض سياساته مع الإحتفاظ بمسافة مع شخصه وسياساته. لقد كان ذلك خطأ استراتيجيا أفقد الكيان الإسرائيلي تعاطف الكثيرين في العالم الغربي. ومن المؤكد أن تلازم صورة «إسرائيل» بالرئيس ترامب كان من بين أسباب العزوف الدولي عن دعم بنيامين نتنياهو وحكومته وعدوانه الأخير.
رابعا: إن معارضة العدوان هذه المرة لم تنحصر بالتوجهات الإسلامية أو العروبية او الليبرالية، بل وصلت إلى الكونغرس الأمريكي. فبالإضافة لصعود بايدن إلى الرئاسة كان مذهلا عدد أعضاء الكونغرس من الحزب الديمقراطي الذين كانوا يضغطون على بايدن للتدخل لوقف الحرب. هذا تغير كبير في المزاج السياسي الأمريكي غير مسبوق. يضاف إلى ذلك أن الإعلام الأمريكي عموما لم يساير الإسرائيليين كما كان يفعل في السابق، بل كان أكثر ميلا لوقف العدوان. من الواضح أن وصول أصوات جديدة إلى الكونغرس، متعاطفة مع فلسطين ساهم في هذا التغيير، فكانت مواقف كل من إلهان عمر ورشيدة طليب، عضوتي الكونغرس من الحزب الديمقراطي ذات أثر في تشكيل رأي عام ضد العدوان وأقل تعاطفا مع الاحتلال، خصوصا بعد أن استهدفهما ترامب بشكل شخصي خلال رئاسته، ومنعتهما السلطات الإسرائيلية من زيارة الاراضي المحتلة.
خامسا: إن توسع جبهة المقاومة في المنطقة وحدوث تغير نوعي في القدرات الدفاعية لديها أخلّ بالتوازن التقليدي الذي كان يرجح كفة «إسرائيل» في حروبها الأولى مع العرب. حدث هذا التغير ابتداء من حرب 2006 مع حزب الله اللبناني، وتواصل في حروبه مع المقاومة الفلسطينية في الاعوام 2008 و 2014، وبلغ ذروته في العدوان الأخير. في هذه الحالات الأربع واجه العدو مجموعات المقاومة وليس الجيوش العربية النظامية التي لم تصمد امامه في الحروب الاولى منذ العام 1948. وفي العدوان الإسرائيلي الأخير استطاعت صواريخ المقاومة الوصول إلى كل نقطة في الأراضي المحتلة، بما فيها تل أبيب. وعاش المستوطنون حالة من الذعر غير مسبوقة، حيث صفارات الانذار لا تتوقف والصواريخ تمطر عليهم من السماء. وبرغم وجود منظومة دفاع قوية تحت مسمى «القبة الحديدية» فقد تم اختراقها على نطاق واسع الأمر الذي أرعب الإسرائيليين، وربما كان ذلك من العوامل التي أرغمت نتنياهو وحكومته على وقف إطلاق النار.
سادسا: إن الاستراتيجية العسكرية للعدوان أضعفته كثيرا، خصوصا استهداف المباني السكنية وقتل الأبرياء خصوصا الأطفال الذين بلغ عددهم الربع من مجموع ضحايا العدوان (65 طفلا من 240 شهيدا). ثم جاء استهداف العمارة التي تستخدمها وسائل الإعلام الدولية وتضم مكاتب قناة الجزيرة والأسوشيتد برس الأمريكية. كان ذلك خطأ فادحا ساهم في تفاقم الغضب الأمريكي خصوصا أن مدير الوكالة هدد بمقاضاة المسؤولين عن العدوان. كما أن استهداف المنشآت المدنية كالمدارس والمستشفيات والمكاتب دفع لدعوات بمحاكمة رموز كيان الاحتلال بدعاوى ارتكاب جرائم حرب. كان واضحا في العدوان تداخل الدوافع الشخصية لدى نتنياهو بالضرورات الدفاعية الوطنية. كانت عينه على رئاسة الوزراء التي لم يستطع التشبث بها نتيجة تراجع عدد المقاعد البرلمانية التي حصدها في الانتخابات الأخيرة. يضاف إلى ذلك رغبته في تجاوز مسألة المحاكمة التي ينتظرها بتهم االفساد. لذلك سعى لإطالة أمد العدوان وضمان تحقيق انتصار ساحق على الفلسطينيين، لأن ذلك سيمنحه موقعا سياسيا قويا. ولكن ذلك لم يتحقق له، بل أصبح الآن متهما بخوض حرب أضعفت الهيبة العسكرية الإسرائيلية وحطمت مقولة «الجيش الذي لا يقهر» وأطمعت قوى المقاومة في تصعيد التحدي للاحتلال.
كاتب بحريني