توجيه مسار العلاقات العربية والتدخل لضبط التفاعلات

توسيع مسار التطبيع والحديث عن صناعة السلام في المنطقة، يُترجَم في آخر مراحل حكم إدارة ترامب بتقارب أربع دول عربية مع إسرائيل. وهو متغير تاريخي لم يحدث منذ 25 عاما. فهل يغيرون الحدود والخطوط ليقدموا شيئا أكبر بكثير، كما عبر عن ذلك المشرفون على عملية السلام في الإدارة الجمهورية الراحلة، بعد هزيمتها الانتخابية؟ ولماذا تمنح بعض الدول العربية تنازلات مهينة بهذا الشكل لواشنطن وتل أبيب، لتحظيا بفرصة الحديث عن إنجاز عظيم في هذه الاتفاقيات، جوهره تحالف حرب ضد المشروع المقاوم للسياسات الغربية في المنطقة؟
الحق التاريخي الذي لا ينساه الفلسطيني المشرد، يُداس عربيا وفق منطق المقايضة والبيع والشراء، على حساب المصالح الفلسطينية. والتطبيع الذي يتم مقابل رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، واعطائه أموالا، والحديث عن جالية يهودية مغربية في إسرائيل، هي سبب عودة العلاقات المغربية الإسرائيلية التي تمر عبر الصحراء هذه المرة، ورغبة أبوظبي والمنامة في الحصول على طائرات أمريكية حديثة، وإن كان يكفيهما الدعم الأدبي، وبعض المدح المتكلف من قِبل سيد البيت الأبيض، واستماتة البعض في احتضان ورشات صفقة القرن، تكشف مجتمعة عن انهيار النظام الرسمي العربي، الذي يعيش أسوأ حالاته. إلى حد لم تعد معه جامعة الدول العربية قادرة على القيام بدور التنسيق الضيق الذي فرضته اعتبارات التأسيس عام 1945، في ظل خضوع معظم الدول العربية حينها للاستعمار الغربي.

الحق التاريخي الذي لا ينساه الفلسطيني المشرد، يُداس عربيا وفق منطق المقايضة والبيع والشراء، على حساب المصالح الفلسطينية

واندماج بعض الأنظمة العربية في مخططات إعادة تشكيل الصورة، تحت عنوان السلام، يضع مشروع المقاومة الذي يرى أنه ملزم بحدود الهوية والانتماء، وليس بحدود الجغرافيا الضيقة، في مواجهة مصيرية مع مشروع إعادة تعريف المصالح الأمريكية والصهيونية، التي تسعى لتحقيق أعلى درجات المكاسب على قاعدة حماية بقاء إسرائيل واستمرار تدفق النفط بأسعار مناسبة، ومنع قيام أنظمة قوية تعادي الولايات المتحدة وإسرائيل. منذ نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 والأمة تواجه صراعا هائلا مع المشروعين الصهيوني اليهودي والاستعماري الغربي. والصراع مستمر رغم تخاذل البعض وتخليهم عن القضية الفلسطينية، وتحالفهم مع العدو المحتل للأراضي العربية. وهذا الصراع، خصوصيته تنبع من كونه ليس مجرد خلاف في الرأي، أو في المصالح، أو مجرد صدام أيديولوجي، تتم تسويته باتفاقيات سلام لم تسبقها حرب كما يراد الترويج له. وإنما هو صراع وجود، وخيار بقاء مع آخر أشكال الاستعمار الاستيطاني، الذي تتجاوز طموحاته حدود الأراضي الفلسطينية. فظهور الصهيونية كحركة سياسية عالمية منظمة، كان لصيقا بحرب الهويات، التي باتت تمثل عصب فكرة احتواء المشروع القومي العربي وتفكيكه. ويبدو أن احتضان إسرائيل بالرعاية والمساندة والتأييد لم تعد مَهَمة محتكرة أمريكيا، بل اقتنعت بعض الدول العربية بضرورة إجراء تغييرات على موقفها من تل أبيب، ومن ثم تبني هذا الكيان حتى يصبح عضوا من أعضاء الأسرة الإقليمية، في نوع من تبييض التاريخ المشؤوم «لدولة» قامت على أنقاض الشعب الفلسطيني عندما نادى ثيودور هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأولفي مدينة بازل السويسرية بإقامة «دولة لشعب بلا أرض في أرض بلا شعب».
وإن كانت خيوط المؤامرة قد حيكت سنة 1897 ضد الأمة العربية والإسلامية في غفلة منها، فهي اليوم تشارك في وضع اللمسات الأخيرة للمشروع الصهيوني، الذي حُدِدت معالمه في ذلك المؤتمر، وضُبِطت قسمات الحركة الصهيونية وأهدافها، ضمن إطار توثيق التحالف بين المخططات اليهودية والمخططات الاستعمارية. ومؤتمر كامبل بنرمان، الذي نظمه حزب المحافظين البريطاني عام 1905 بمشاركة دول أوروبية هي فرنسا وبريطانيا وهولندا وإسبانيا وبلجيكا وإيطاليا، تقاطعت مضامين وثيقته التي حملت اسم وزير المستعمرات كامبل مع مقررات مؤتمر بازل إلى درجة التطابق. والإشراف الأمريكي الجديد على المشروع الصهيوني في المنطقة، لا يعني تراجع الدول الأوروبية عن مساندته، فالعالم الغربي يرسم علاقاته مع العالم العربي والإسلامي تبعا للسياسة الإسرائيلية وحسب، وهو ما يشكل الرهان بالنسبة للبعض، والانحدار الطبيعي بالنسبة للبعض الآخر، والفخ بالنسبة لمن لا يحسبون كل نتائج مواقفهم. والتطبيع الذي يحدث تحت عناوين اقتصادية وعسكرية وأمنية، هو في عمقه إعادة توجيه لمسار العلاقات العربية تجاه إسرائيل، وربطها بالمشروع الصهيوني، وبالولايات المتحدة الأمريكية، ضمن إطار من العلاقات الثنائية على حساب مشروع التكامل العربي والقضايا المشتركة، وهو مخاض يحقق لإسرائيل أمانيها بمواجهة مشتركة ضد إيران، بعد أن أصبح الأمريكي يحدد للعرب من هو الصديق ومن العدو. وفيه صدى لما كتبه هرتزل في يومياته عندما قال: «يجب قيام كومنولث شرق أوسطي يكون لدولة اليهود فيه شأن قيادي فعال، ودور اقتصادي، وتكون المركز لجلب الاستثمارات والبحث العلمي والخبرة الفنية» .
خلق أشكال عديدة من التناقضات والخلافات البيْنية في علاقات الدول العربية هو المناخ الذي تحبذه إسرائيل. والفكر الاستعماري الغربي وفّر السياقات المناسبة للتفرقة والتشرذم، ووَجد ضالته في إقامة دولة تكون بمثابة قاعدة سياسية واقتصادية تحقق مصالحه في المنطقة، وظهور مصطلح الشرق الأوسط يعبر بوضوح عن المشروع الذي استهدف الاستحواذ على المناطق العربية ضمن مخطط تفكيك الامبراطورية العثمانية. ومصطلح الشرق الأدنى ومن ثم الشرق الأوسط الكبير، ليست مجرد مصطلحات سياسية أو جغرافية، وانما رَوج لها المشروع الغربي الاستعماري، الذي أنشأ المشروع الصهيوني كمفاهيم بديلة للوطن الواحد والأمة الواحدة والشعب الواحد. وهي مفردات محددة لمشروع استعماري متواصل، يقوم أساسا على ابقاء شعوب المنطقة مفككة، ومتأخرة ومحرومة من اكتساب العلوم والمعارف. ومن الواجب محاربة أي اتجاه من قبلها لامتلاك العلوم التقنية وتطوير قدراتها العلمية، وهو ما حدث مع العراق ويُراد له أن يتم مع الجمهورية الاسلامية في إيران. من حاصل نسخ معدلة لسايكس بيكو التي بدأت بفرض الاستعمار الغربي على كل الدول العربية وتصفية الامبراطورية العثمانية، وتقسيم الوطن العربي إلى دويلات مفعمة بكل أسباب التوتر وعدم الاستقرار، وافتعال الصراعات العرقية والطائفية وأزمات الحدود.
والدول العربية التي تندفع نحو التطبيع يبدو أنها تحررت من التزاماتها تجاه فلسطين، وتنظر هي الأخرى بعين العطف مثل حكومة صاحب الجلالة التي عبر عنها المستر بلفور في وعده بإنشاء وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي. والحلفاء الجدد يبذلون قصارى جهودهم لترسيخ هذا المشروع، واعطائه كل أسباب التمكين والتوسع. على حساب الفلسطينيين الذين خذلتهم سلطتهم أيضا عبر التنسيق الأمني المتواصل منذ اتفاقية أوسلو، التي استبدلت الحقوق الوطنية الفلسطينية بسلطة تحت الاحتلال، ظلت رهينة التزاماتها تلك، من دون مقابل أو سلطة على الأرض.. ورهينة مفاوضات بلا أساس نتيجتها تهميش فلسطينيي الداخل والشتات، ومراكمة الخلاف والانقسام.
وبالمحصلة، أحلاف الخضوع التي تُغدق الهدايا على حكومة مغادرة وأخرى ملاحقة قضائيا، لن تحصل سوى الخيبات. وتنافسها من أجل التطبيع لا يعني شيئا بالنسبة للشعوب الحرة التي تشربت الكرامة وحب فلسطين، وتفقه جيدا معنى الاستعمار وتدرك عدوها الحقيقي.
*كاتب تونسي

التطبيع
الحق الفلسطيني
ومؤتمر كامبل بنرمان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية