بدأ الاهتمام بدراسة الأنظمة السردية مع بواكير النقد التاريخي، وحدد رولان بارت تاريخ هذا الاهتمام في منتصف القرن التاسع عشر، ففي ( حوالي سنة 1850 بدأ الشكل يطرح قضية تبرير وجوده على الأدب، وبدأت الكتابة تبحث عن مسوغاتها). ومنذ هذا التاريخ تزايد اهتمام الباحثين الغربيين بالنقد الروائي، وكان التاريخ هو منهجهم جنبا إلى جنب المنهج المقارن، الذي وظفه كثير من الدراسات النقدية وقامت بدور فاعل في الكشف عن عمليات التأثر والتأثير، ما بين آداب الأمم القديمة والحديثة على اختلافها شعرا وسردا ومسرحا، بيد أن وضع اليد على مكامن الإبداع كذاكرة جمعية ووعي تاريخي وأنظمة وتقاليد، لم يكن هو الهدف الأساس بقدر ما كان البحث عن التشابهات والاختلافات هو المراد.
وكان النقد البنيوي قد أسس أرضية نظرية أُريد لها أن تكون فلسفية لكن سرعان ما انقلب منظروها عليها، وفي مقدمتهم رولان بارت الذي انقلب على النصية بالعودة إلى ما قبلها كلحظة تاريخية فيها المؤلف يفكر إبداعيا. وتابع الباحثون والنقاد العرب الطريق نفسها، فدرسوا السرد القديم دراسة تاريخية حينا ومقارنة حينا آخر، إلى أن جاءت المنهجيات النصية التي وجهت الباحثين نحو تجزئة دراسة التراث السردي القديم، فكان أن تجزأت كليته في أشكال أو أجناس أو فنون أو أغراض ومضامين. والمفارقة أن هذه التجزيئية ـ على ما فيها من رؤية أكاديمية ـ أدت إلى تحويل هذا التراث إلى تراثات، أي موزعا حسب مواضعات المنهجيات النقدية. الأمر الذي حال دون النظر إلى كلية التراث السردي كذاكرة وتاريخ وإبداع، ولعل للمنهج البنيوي حصة الأسد في هذه التجزئة، فكان الباحث البنيوي يقتطع من التراث القديم نوعا سرديا ويشبعه دراسة، وإذا حصل وتتبع أصول هذا النوع فلأجل أن يبين ما طرأ عليه ـ أي النوع السردي ـ من تطور دون أن يعمم التتبع على مسائل لها علاقة بالنوع، يشتمل عليها التراث كلا لا جزءا. والأمثلة كثيرة على دراسات تناولت السرد القديم من زاوية مفاهيمية كالشعرية والتناصية والتاريخيانية والنسوية وبأبعاد نصية وتناصية وسوسيونصية وميتانصية.
وقد قالت الدراسات المقارنة قولتها في مسائل التأثر والتأثير، وقدمت الدراسات الثقافية تأويلات مبنية على معطيات النظريات ما بعد الكولونيالية، وما استجد في دراسة الأدب، دون أن تضيف أو تقدم جديدا إلى سابقتها، أي الدراسات المقارنة. وظل ما درسه الثقافيون من ثيمات كالهوية والأنا والآخر والجندر والاستعمار والجسد والهامش والتابع، خاضعا للاقتطاعية، مسايرا الدراسات السردية الكلاسيكية وما رسخته من أفكار ليس يسيرا زحزحتها. وليس بارت هو وحده الذي رأى في البنيوية قطيعة مع التاريخ وأن من المجدي ردم هذه القطيعة، بل انضم إليه منظرو سرد آخرون، وجدوا في الانفتاح بالبنيوية مزيدا من الكشف عما يفضي إلى دراسة الأدب دراسة مغايرة. وقبلهم كان للنقاد الأرسطيين الجدد اشتغال آخر كشفوا فيه عما في الدراسة المقارنة من قصور في رصد جماليات الأدب، فراحوا يعنون بتفصيلات منسية في الأدب، فدرسوا الأسطورة واتجه رينيه ويليك وأوستن وارين، إلى دراسة الأدب من الداخل والخارج وفقا للشكل والمضمون، وأفادا من علم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس. وطبّق آخرون نظريات التلقي والقراءة على كلاسيكيات السرد القديم، ومنهم واين بوث الذي طرق موضوع الموثوقية والمؤلف الضمني وغيرهما.
ويعد توماس ليتش واحدا ممن طرحوا الأقلمة مفهوما نقديا عام 2008 في مقاله الافتتاحي لمجلة تحمل اسم «الأقلمة» وعنوانه (دراسات الأقلمة على مفترق طرق) وفيه دعا إلى إلغاء المسافات بين تخصصين هما، الرواية والسينما. وجاء من بعده باحثون ساروا بالمفهوم نحو التطبيق ووضعوه على لائحة أجنداتهم تحت مسمى (دراسات الأقلمة) ولعل كتاب «دليل أكسفورد لدراسات الأقلمة» تحرير توماس ليتش، أول تمثيل تطبيقي لهذه الدراسات، وساهم فيه أكثر من أربعين باحثا غربيا، منهم السويدية ميك بال والبريطانية كاميلا اليوت والأمريكيان توماس ليتش وماري لوري رايان والكنديان ميشيل هيتشون وليندا هيتشون. وقد سعوا في أبحاثهم إلى تحديد تعاريف محددة للأقلمة، مع بيان طبيعة وظائفها ومراحلها بعيدا عن الأطر المعهودة وتجاوزاً للمنهجيات التقليدية المتبعة في الدراسات الإنسانية، مع التركيز على خصوصية دراسة تداخل السرد بالميديا والسينما. وتم تقسيم اشتغالاتهم البحثية إلى ثلاث مجموعات، عملت المجموعة الأولى على الأبعاد التاريخية بغية وضع رؤية خلفية تساعد في الوصول إلى اللحظة التاريخية الحالية. وتخصصت المجموعة الثانية في وضع لمحات سريعة للوضع الحالي لمنهجيات الأقلمة تبادلا وانتقالا. واهتمت المجموعة الثالثة برسم المسارات المستقبلية التي يمكن لدراسات الأقلمة أن تسلكها. واعتمادا على هذه المجموعات توزعت فصول الكتاب بين سبعة أقسام هي على التوالي: تأسيس الأقلمة/ عمومية الأقلمة/ أقلمة الكلاسيكيات/ الأقلمة والجنس الأدبي / الأقلمة والتناصات/ الأقلمة كتناصات وتعدد تخصصات/ الاعتراف بالأقلمة. وفي قسم (الأقلمة والجنس الأدبي) كتبت ليندا وزوجها ميشيل هيتشون بحثا مشتركا عنوانه (الأقلمة والأوبرا) وفيه ركزا على خصوصية فن الأوبرا، وأنها شكلت قاعدة على مدى تاريخها الذي يزيد على أربعمئة عام، فكانت لها في القرن السادس عشر تقاليد على مستوى الإنتاج والتلقي الأوبرالي. وأن الأوبرا تحضر اليوم في وسائل الإعلام متأقلمة مع النص المكتوب وطرائق تسجيل النوتة، ما يؤكد صدق مقولة الشاعر بليك أن( الأوبرا شريان الحياة). وختم توماس ليتش الكتاب ببحثه الموسوم (ضد الاستنتاجات: النظريات المصغرة ودراسات الأقلمة) وفيه أشار إلى علاقة النظرية بالممارسة، وأنها كثيرا ما تكشف عن طرائق جديدة في التفكير توصل إلى نتائج غير مألوفة فهما وأداء.
وعلى الرغم من أن دراسات الأقلمة في طور التأسيس وما زالت مشاريعها في بدايات تشكلها على مستوى الجامعات العالمية ومنها، جامعة أكسفورد، فإن الباحثين حققوا فيها تقدما ملحوظا. ومما أنجز في هذا المجال من أبحاث، أطروحة دكتوراه للباحث جوناثان كينكيد من جامعة كاليفورنيا وعنوانها (الأقلمة، المعالجة والمعاملة بالمثل في سرديات ألعاب الفيديو). درس فيها أقلمة نقد السرد الفيلمي الذي عُرف في القرن العشرين والسرد الميديوي والألعاب الفيديوية، التي شاعت في القرن الحادي والعشرين. وغاية الباحث معرفة ما طرأ على نظرية السرد من تطورات في الجمع بين تاريخية السرد كفعل ملفوظ وتقنيات ألعاب الفيديو، كمادة فيلمية مسموعة ومقروءة ومرئية. وتصب مثل هذه الأبحاث في صالح تأكيد الفرضية القائلة إن للمدرسة الأنكلوأمريكية كشوفات تخرق ما اعتادته المدرسة الفرنسية البنيوية، وما بعد البنيوية في تحليل السرد كأحداث وشخصيات ووجهات نظر. وهي بالعموم تركز على التطورات الجديدة كالتحول في أساليب التواصل في ضوء اتساع النطاق السبراني لوسائل الديجتال ودينامية التقارب التقني والعبر ـ ميديا وعالم السرد في إنشاء محتوى غير اعتيادي ينغمس في الخيال الرقمي ويمزج بين الأساليب والعناصر النصية.
كاتبة عراقية