جاءت الثورة التونسية على غير موعد، لم يكن أحد ينتظرها، رغم تململ باد بين فئات من الناس. كان النظام قد أحكم قبضته بانخراط موظفي الدولة في قانون ولاء مقيت ارتضوه أو اجبروا عليه، وإعلام يصور البلد جنة الله على الأرض. اعتاد الناس أن يحمدوا ربهم، خاصة متى نقلت لهم الأخبار فظاعات غيرهم.. كان الكثير منا يرى في الواقع ممكنا طيبا له أن يقنع به وانحصرت اهتمامات الناس في الحياة الفردية الضيقة والحلول الآنية، وإن كانت قصيرة المدى، حتى تراكمت مظاهر الخلل والفساد ولما كان هروب بن علي شعر الشعب بأنه قد صار ماردا وأنه فعل ما لم يحلم به كل العرب يوما، وهل منهم من تجرأ على قلب نظام حكم بلده؟ كانت الأحلام وردية وكانت المطالب كثيرة بقدر سنوات الصمت والرضا والخوف. لكن ما لم ينتبه إليه الشعب هو أن المطالب أصبحت تضيق تدريجيا حتى صارت لكل فرد مطالبه، وعلى القائمين على الحكم التنفيذ. طفت على السطح مصطلحات شتى: ‘الحقرة’ و’التهميش’ و’بقايا النظام الفاسد’، وتفنن الاعلام بعد أن كان أيام الثورة يصور أهل المدن والقرى مجرمين وخارجين عن القانون في توظيف هذه المصطلحات، ربما محاولة منه للتكفير عن ذنوب اقترفها واعيا في حق شعبه ومهنته. فانقسم المجتمع إلى بقايا نظام من جهة، وثوريين من جهة أخرى، وبدأت الحرب الاعلامية على هؤلاء على الفيسبوك (التي تحولت الآن إلى حرب مضادة أسلحتها التلفيق والتهويل و…) وبقيت القنوات التلفزية تختزل الفساد وصوره في العائلة الحاكمة وبعض الأفراد، حتى صُوروا وحوشا والحال أن للعاقل أن يسأل: هل لمنظومة الفساد أن تستشري إن لم يتواطأ معها الآخرون وإن لم يتلذذ الكثيرون بنتائج ما كسبوا؟ سؤال لا يبرئ ولا يخفف وطأة المسؤولية بقدر ما يدفع إلى التفكير: ألم يكن هذا التركيز على اسم بعينه ‘بن علي والطرابلسية’ خدعة منذ البداية ليُطهر بعد ذلك وتدريجيا من يُشاء لهم أن يستردوا مواقعهم وربما بسلطة أقوى؟ غير أن هذا ما كان ان يحصل لو لم تتقاعس الحكومة المنتخبة في التطهير. كان الشعب حليفها في هذا المشروع، زمن كانت بقايا النظام لم تستقو بعد وإن كان وجود السبسي في الحكم سنة كاملة قد منحهم وقتا كافيا لتنظيم هياكلهم، خاصة أنه كان يكرر كثيرا أنه المسؤول الأوحد وأنه لا تحق لأحد مشاركته القرارات. تقاعست الحكومة لأسباب شتى ربما لأنها لم تشأ المواجهة المباشرة، أو لأنها لم تكن شجاعة بما يكفي، أو لأنها اختارت أن تبسط نفوذها وترجئ حاجة المرحلة الأولى (التطهير) إلى موعد لاحق، أو أنها كانت في حاجة إلى الهياكل الادارية لتسيير الأمر، وما الهياكل هذه إلا ذراع التجمع الطولى التي إن شاءت أن توقف عجلة البلد أوقفتها. كان على الحكومة أن تعترف بهذا لكن هذا التخاذل منح الآخرين فرصة ذهبية، وهم أعلم الناس في البلد بثقافة الخبث والتذاكي على الآخرين، فاتخذوا بطء سيرها وعدم خبرتها مطية ليصوروا أنفسهم منقذين فإذا ما حاولت بسط نفوذها اتهموها بالدكتاتورية ومتى تباطأت أو حتى هادنت اتهموها بالتقاعس وهو ما جعلها تبقى مشتتة، لأنها حاولت في مرحلة ما كسب ود الجميع وكان تقديرا خاطئا جدا. الغريب في الأمر هو’أن يتحالف أعداء الأمس ليصبحوا أصدقاء، وأن تطفو على السطح مصطلحات أخرى تخلف سابقتها وتقسم المجتمع إلى إسلامي (أو إرهابي عند البعض) وعلماني، إلى ثوري وثورجي، إلى وطني وخائن إلى جاهل ساذج وآخر يفهم اللعبة ويمتلك البديل، والحال أننا لم نسمع له صوتا من قبل ولا عاش وجع المناضلين.. ترد التقسيمات على لسان النخبة وهذا هو اللافت، إذ لم تعد منقذا ولا مثقفا فاعلا بقدر ما وجدت إمكان استعراض عضلات كلامية زاد وجع الشعب وغيب مشاكله الحقيقية وزاد تمزقه بين ما يرجوه وما ينتظره من حكومة لم يعد يشعر بأنها تشبه مشروعه الحالم، ومعارضة انخرط فيها الجميع من دون استثناء ومن دون بدائل واضحة تمضي الوقت على الشاشات أو في المجلس التأسيسي، محاولة تقزيم الحكومة وتلبس قناع الوطني المخلص صاحب الحل السحري، ولكن ما يلفت الانتباه هو أن يرد تقسيم آخر على لسان من يدعي الخبرة وإمكان الانقاذ وهي ثنائية ‘الملاكة (صاحب البيت) والكراية (المستأجرون) فالسبسي قد كررها مرارا وهذا يعني أنها تلخص نظرته إلى الشعب، والغريب أنه يوظفها متى تحدث عما صاروا يسمونه ‘الدساترة’ (وهذا أيضا يحتاج إلى قول طويل) وحين يمر كلام كهذا مرور الكرام فلا يعلق عليه أحد ندرك أن المعارضة انتقائية حين تسمع نفسها وغيرها، وغير موضوعية ولا عادلة حين تُحاسِب وأن من يدعون الخبرة العلمية أو العملية وأغلبهم منخرطون في ذات التوجه لا يتكلمون إلا في أمرين: ما يُظهر الحكومة عاجزة وما يدفع الشعب إلى اليأس أو حتى كره الثورة ويبرر بالتالي الحنين إلى الماضي. يجد الشعب التونسي نفسه بعيدا عن حساباتهم، الكل يستغبيه وإن كانوا يتفنون في الكلام باسمه لينتهي هو الخاسر الوحيد لأنه لا حقيقة ثابتة، باعتبار أن كل شيء صار محل شك ولأنه لا حرمة يقف عندها لتجمعه فتحقق وحدته. حين’يُختزل الخطاب في هذه المرحلة في السب والشتم والتقزيم للإضحاك وادعاء حرية الفن أو ادعاء بطولة المواجهة الكلامية لا يمكننا إلا أن نتساءل: هل هي ضرورات المرحلة التي سنتخلص منها قريبا لنبلغ ما نريد من فن ساخر لكنه واع، ومعارضة همها وطنها لا حساباتها الضيقة ومثقفين ومحللين (يكاد عددهم يفوق عدد البقية) لا يرون الشعب عاجزا أو ساذجا فيطرحون أفكارا غريبة، كلما غالت في الغرابة انتشوا لأنها تثبت تعاليهم ‘الفكري’ (والغريب أن يهيمن على مواقفهم باب معين هو الهوية الاسلامية دون غيرها نكاية في الحزب الحاكم فلا أحد مثلا اهتم بمصيبة ترتيب تونس بين جامعات العالم، رغم أنها تهمهم مباشرة بل ربما تدينهم) ومن حكومة تكون أكثر قدرة على تمثيل الشعب وهي تقرر وتنفذ. يبدو الأمر عسيرا نسبيا الآن بعد أن منحتهم الحكومة بما ذكرناه في البداية إمكان إعادة التنظيم ومنحَهم الاعلام’حضورا لا يضاهى، إذ من العسير أن تتحقق أهداف الثورة ومن قامت عليهم الثورة قد منحوا حق الانبعاث من جديد.. سيستجدي الحزب الحاكم قريبا دعم الشعب ليقر قانون تحصين الثورة، ولكنه سيكون قانونا ضعيفا وربما تلت اقراره دسائس كثيرة قد تنجح في إشعال مناطق كثيرة، خاصة مع إطلاق سراح كثير من ذوي السوابق ومع ردود الكثيرين الانفعالية ومع تواطؤ هياكل أخرى وملل فئة من الشعب الانتظار.