تونس ـ «القدس العربي»: يعتبر القطاع الصناعي في تونس العلامة المضيئة خلال العشرية الماضية، حيث أهل البلاد لتكون واحدة من أربع دول أفريقية شهدت تطورا هاما ولافتا بفعل النمو الحاصل في الصناعات التي تم إنشاؤها خلال فترة بناء الدولة الحديثة، وأيضا بسبب التوسع في الأنشطة لتشمل صناعات متطورة جديدة. وأعدت مؤشر التصنيع المشار إليه منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية بالتعاون مع البنك الأفريقي للتنمية والاتحاد الأفريقي وهو ما يؤكد جديته بالنظر إلى مصداقية هذه الجهات الثلاث وبالنظر أيضا إلى صبغتها الرسمية.
نجاح المؤسسات
ولعل معيار «استقرار البيئة السياسية» الذي تم اعتماده من بين معايير أخرى في هذا المؤشر التنموي هو الذي جعل تونس لا تتصدر منفردة هذا التصنيف باعتبارها لم تعرف الاستقرار طيلة العشرية الماضية. بالمقابل فإن البلدان الثلاثة الأخرى وخصوصا جنوب أفريقيا والمغرب شهدتا سنوات استثنائية من الهدوء والسكينة لم تعرف لها مثيلا من قبل وهو ما طور مناخ الإستثمار وخلق استقرارا شجع على التطور الصناعي، ورغم ذلك تواجدت تونس مع هذه البلدان في المراتب الأولى.
ويؤكد خبراء على أن ما جعل تونس تتبوأ هذه المرتبة الهامة في المجال الصناعي في قارتها، مقارنة ببلدان أخرى تفوقها في المساحة والثروات وعرفت الاستقرار طيلة السنوات الماضية، هو النجاح اللافت لكثير من المؤسسات الصناعية. حيث تطورت الصناعات القديمة التي تركزت منذ بدايات الاستقلال من حيث ارتفاع الإنتاج وجودة المنتوج رغم الصعوبات الكثيرة التي طالتها بفعل كثرة الإضرابات. كما برزت صناعات حديثة متطورة مثل صناعة السيارات وقطع غيار السيارات وقطع غيار الطائرات والصناعات التكنولوجية وصناعة تكنولوجيا الطاقات البديلة وغيرها.
سياحة متهالكة
بالمقابل فإن القطاع السياحي كان أشد المتضررين خلال العشرية الماضية بسبب تدهور الوضع الأمني خلال السنوات الثلاث الأولى التي تلت الثورة، حيث حصلت عمليات إرهابية هزت الشارع التونسي وجعلت الحجوزات السياحية نحو الخضراء تتراجع. وزادت جائحة كورونا الطين بلة بعد أن تقوقعت الشعوب وانكفأت على نفسها وهو ما اضطر عديد الفنادق إلى الإغلاق وشركات الطيران إلى إلغاء الرحلات وحتى التوقف عن نقل المسافرين من وإلى تونس. كما ساهمت الحرب الروسية الأوكرانية في خسارة تونس لسوق سياحية هامة تمثلت في الروس والأوكرانيين، الذين كانوا يقبلون على الوجهة التونسية، وذلك مقابل عودة جنسيات أخرى بعد انتهاء جائحة كورونا على غرار البريطانيين والألمان والإسبان والإيطاليين. لكن السياحة التونسية لم تستعد ألقها المعتاد الذي ميزها قبل الثورة وهو ما جعل البعض يتساءل عن جدوى الاستمرار في الاعتماد على السياحة وإيلائها كل تلك الأهمية خاصة مع الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية وفقدانها في أحيان كثيرة.
ولعل ما يدفع البعض إلى تبني هذا الرأي هو المردودية الضعيفة لهذا القطاع حتى في السنوات التي شهدت ارتفاعا كبيرا في عدد السياح وفي الليالي المقضاة. وبلغة الأرقام فإن مداخيل القطاع السياحي لم تتجاوز خمس تحويلات المهاجرين التونسيين بالخارج مع استنزاف كبير للمواد الاستهلاكية المدعمة وللماء والطاقة. ويعود سبب ذلك إلى اعتماد القطاع السياسي في تونس على السياح المغاربيين الذين يدخلون إلى تونس وبحوزتهم الدينار التونسي الذي يتحصلون عليه في بلدانهم من السوق السوداء وبطريقة غير مشروعة، وبالتالي فهم لا يجلبون العملة الصعبة ولا يقدمون الإضافة المرجوة، شأنهم شأن السياح الغربيين الذين يضخون تكاليف إجازاتهم في حسابات بنكية خارج الديار عائدة لأصحاب الفنادق التونسية من دون أن ينتفع بها الاقتصاد التونسي.
الطاقات البديلة
كما شهد قطاع الطاقة والمناجم مشاكل بالجملة خلال العشرية الماضية وهي متواصلة إلى اليوم وذلك رغم التحسن الطفيف في إنتاج الفوسفات الذي توقف في وقت ما وجعل تونس تختفي من خريطة منتجي هذه المادة الحيوية في العالم بعد أن كانت تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاجها قبل الثورة. وما زالت الإضرابات التي تعطل في أحيان كثيرة خط السكك الحديدية عدد 13 الناقل للفوسفات من الحوض المنجمي إلى المجمع الكيميائي الصناعي بمدينة قابس هي الطاغية على المشهد اليوم ولم تتمكن الحكومة من حسم الأمر واستغلال الظرف العالمي الذي ارتفعت فيه أسعار هذه المادة بشكل قياسي لجني أرباح هامة تغنيها عن 1.9 مليار دولار هي قيمة القرض الزهيد الذي تنتظره من صندوق النقد الدولي.
كما تراجع إنتاج تونس من النفط والغاز بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة وتحول البلد الذي كان مع بداية الألفية يحقق اكتفاءه الذاتي من إنتاجه من المحروقات، إلى بلد مستورد لقرابة الثمانين في المئة من حاجياته. ويعود ذلك إلى تعطل إنتاج المحروقات بفعل الإضرابات وبفعل عدم تطوير الحقول لرفع الإنتاج وبفعل عدم التنقيب عن حقول جديدة والجنوح إلى أسهل الحلول وهو التوريد.
كما أن مشاريع الطاقات المتجددة والنظيفة تسير بنسق بطيء جدا رغم أن تونس كانت قبل الثورة سباقة في محيطها في الدخول إلى عصر الطاقات البديلة وكانت تحقق الاكتفاء الذاتي الطاقي من المحروقات. فالهدف المستقبلي لتونس لا يتعدى تغطية 30 في المئة فقط من حاجياتها بالطاقة الشمسية وذلك مع نهاية سنة 2025 في الوقت الذي تطمح فيه بلدان عديدة إلى تغطية حاجياتها الطاقية بنسبة 100 في المئة من الطاقة الشمسية. وإلى حد الآن لا تغطي الطاقات البديلة في تونس سوى 3 في المئة من حاجيات البلد الطاقية وهو رقم ضعيف جدا لا يتناسب وبلد تشرق في جنوبه الشمس الحارقة على مدار العام ولديه عجز في الإنتاج الطاقي من المحروقات ويضطر إلى استيراد نسبة هامة من حاجياته.
مشاكل متراكمة
ولا يبدو القطاع الفلاحي أفضل حالا من باقي القطاعات باعتبار مشاكله المتعددة والمتراكمة منذ عقود والتي استفحلت في الوقت الحاضر مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وتسببها في غلاء الأسعار. فمن بين المشاكل الجديدة التي أصبح يعاني منها القطاع الفلاحي، ارتفاع أسعار العلف الحيواني، وعدم وضع خريطة إنتاجية وطنية حتى لا يتم إغراق السوق بمنتوجات مقابل غياب أخرى، بالإضافة إلى ندرة التساقطات في السنوات الأخيرة بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري وغيرها.
كما لم تهتم الحكومات المتعاقبة بهذا القطاع ولم تول الاهتمام اللازم لمشاكل الفلاحين ومن ذلك مربيي الأبقار الذين اضطر الكثير منهم إلى بيع عدد هام من أبقارهم إلى جهات في الجزائر ما أفقد تونس قرابة 30 في المئة من قطيعها من الأبقار المنتجة للحليب وجعل الخضراء، التي كانت تحقق فائضا إنتاجيا من هذه المادة تصدره إلى الخارج، تعاني من عجز خلال الفترة الماضية لتلبية حاجيات السوق الداخلية. ولعل السبب في ذلك هو عدم توفير الأعلاف التي تصنع في تونس من مواد أولية مستوردة من الخارج، بالسعر المناسب بعد ارتفاع تكلفة المواد الأولية في الأسواق العالمية وهي مواد يمكن أن تزرع في تونس.
ولم تنعكس أزمة الأعلاف على قطاع الحليب فقط بل تسببت أيضا في ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء والبيضاء التي باتت أسعارها لا تتناسب والقدرة الشرائية للطبقتين الفقيرة والمتوسطة. يحصل ذلك والدولة عاجزة لا تحرك ساكنا وتعلق تقصيرها فقط على شماعة المتآمرين الذين يستهدفون الأمن الغذائي للتونسيين دون السعي لبلورة تصور يحقق الأمن الغذائي للبلد الذي لديه القدرة على ذلك بفعل معطيات جغرافية هامة على غرار كثيرة السهول والأراضي الصالحة للزراعة مقارنة بعدد محدود من السكان تسببت فيه سياسة تحديد النسل التي انتهجتها دولة الاستقلال.