تونس: الهجوم الشرس على الإعلام

كل الحريات في تونس تبخّرت تقريبا فلم تبق سوى حرية الإعلام لكنها اليوم في ضنك شديد.
أكثر الرئيس قيس سعيّد في مناسبات عدة من سهام نقده اللاذع للإعلام في بلاده. بدأت المسألة بتلميحات هنا وهناك، لكنها تحوّلت تدريجيا إلى ما يشبه حملة تحريض منظّمة. سعيّد «حط الإعلام في دماغه» كما يقول المصريون، فلم يعد يطيق صبرا على توبيخه في كل مناسبة، فقبل أسابيع، كان تقريعه القاسي، وعلى الملأ، للإعلام العمومي الرسمي خلال استقباله المديرة العامة للإذاعة والتلفزيون حين صبّ جام غضبه على خطه التحريري معتبرا أن ترتيب الأخبار في نشراته «ليس بريئا». ثم كرّر الاتهام نفسه الأسبوع الماضي في اجتماع وزاري حين انتقد إعطاء الأولوية في الأخبار للعودة المدرسية وغلاء الأسعار، معتبرا أنه كان من الأولى إعطاؤها لما تقوم به أجهزة الأمن من نشاط ضد الهجرة والاتجار بالبشر. ولم يكتف بنقد مؤسسة التلفزيون، بل دعاها ومن ورائها كامل الإعلام في البلاد، إلى ما سماه «الانخراط في معركة التحرر الوطني» التي يقودها هو طبعا، والتي لا أحد يدري ما هي وضد من.
أول أمس فقط عاد الرئيس مرة أخرى إلى نفس القصة، مشددا على أن مؤسسة التلفزيون بقناتيها الأولى والثانية يجب أن تكون «وطنية « (هل هي خائنة الآن أو عميلة؟) معتبرا أن كلامه «لا يعد تدخلا في الخط التحريري» للقناتين، داعيا هذه المؤسسة أن «تنخرط في الخط التحريري للوطن». ولم يقف سعيّد عند الإعلام العمومي بل اتهم بعض الإذاعات، ويقصد الخاصة التي ما زالت محافظة رغم كل شيء على بعض الأصوات الناقدة أو الساخرة، بأنها «تداعت في حملات» قال إنها «للتشويه وإرباك الرأي العام».

هذا «الشحن» الرسمي الواضح ضد الأصوات الناقدة أو المخالفة، والتي لم يسلم منها التلفزيون العمومي، لا يمكن إلا أن يكرّس أجواء الخوف والرعب ما يدفع بالعديد إلى الرقابة الذاتية أو الصمت

وكأن تذمّر رئيس الدولة الدائم من الإعلام وضيق صدره المعلن به وبأهله لا يكفي، وكأن القضايا التي يرفعها عدد من الوزراء ضد صحافيين لا تكفي، وكأن إصدار وزراء الداخلية والعدل وتكنولوجيا المعلومات لبيان مشترك غير مسبوق يتوعّد ويهدّد مواقع التواصل الاجتماعي، والتحاق وزارة الخارجية به لاحقا، لا يكفي، ها هو رئيس الحكومة الجديد أحمد الحرشاني لا يتأخر، هو الآخر وفي بيان غير موفق بالمرة ـ مثل ظهوره الإعلامي الأول في إحدى المدارس ـ في الإعراب عن امتعاضه من مجرد رسم كاريكاتوري ساخر له، حتى وإن سارع إلى التبرّؤ من الملاحقة القضائية لصاحبه، لكنه لم يستطع إخفاء كرهه له من خلال الزعم بأنه لا يعرف الرسام أصلا، وأن التحقيق معه إنما كان بسبب شيك بدون رصيد، وفي ذلك محاولة تشويه واضحة، ناهيك أنه تدخل في سير قضية ما زالت في أطوارها الأولى، ويفترض أن لا علم له بتفاصيلها.
لقد تراخى وتأخر الجسم الصحافي في تونس في الدفاع عن نفسه، ولم يستفق إلا متأخرا للأسف. في البداية، سُجن الصحافي صالح عطية ثلاثة أشهر بسبب مقابلة تلفزيونية بعد محاكمة عسكرية، فلم يتحرّك الكثيرون بالحزم المطلوب، مغلّبين الاعتبار السياسي على المهني، فتتالت الحالات: حكمٌ غير مسبوق على الصحافي خليفة القاسمي بالسجن لخمس سنوات لرفضه الإفصاح عن مصدر معلوماته في تحقيق له عن عملية إرهابية، كما أودعت السجن الصحافية الشابة شذى الحاج مبارك بتعلّة تورّطها المزعوم في شركة مختصة في صناعة محتوى إعلامي، فضلا عن إيقاف نورالدين بوطار مدير إذاعة «موزاييك» الخاصة دون تهمة واضحة قبل إطلاق سراحه مؤقتا بكفالة مالية قياسية، وملاحقات شملت الصحافييْن إلياس الغربي وهيثم المكّي، دون أن ننسى القضايا المرفوعة من وزراء في الحكومة ضد الصحافييْن محمد بوغلاّب ومنية العرفاوي بسبب مقالات أو تعليقات إذاعية ناقدة، وأخيرا وليس آخرا، إيقاف رسام الكاريكاتور توفيق عمران بسبب رسم ساخر من رئيس الحكومة والتحقيق معه قبل إطلاق سراحه.
وعلى ذكر رسام الكاريكاتور توفيق عمران، الذي لم تشفع له تدويناته غير المعارضة لانقلاب قيس سعيد قبل عامين، فقد تعرّض الرجل، كما قال، خلال التحقيق معه إلى أسئلة خلنا أنها اختفت من قبيل هل أنت تصلّي؟ وهل تحتسي الخمرة؟ وهل زوجتك ترتدي الحجاب أو النقاب؟ في تجاوز فج لأبسط قواعد احترام الحرية الشخصية ولجوهر القضية المثارة ضده أصلا.
هذا «الشحن» الرسمي الواضح ضد الأصوات الناقدة أو المخالفة، والتي لم يسلم منها التلفزيون العمومي الذي لم يعد أصلا منذ أشهر يستضيف أي صوت غير مؤيد للرئيس، مقابل ترك الحبل على الغارب لأصوات النفاق الضحلة، والذي أدانته نقابة الصحافيين في بيانات عدة، لا يمكن إلا أن يكرّس أجواء الخوف والرعب ما يدفع بالعديد إلى الرقابة الذاتية أو الصمت، في وقت يشتكي فيه كل الصحافيين أصلا من غياب الظروف الطبيعية لممارسة عملهم، أقلها عدم وجود جهة رسمية يعودون إليها لأخذ معلومة أو تعقيب أو توضيح حول أي مسألة، فلا وجود لمسؤول إعلامي بقصر قرطاج ولا لمدير للديوان الرئاسي.
لا أحد يتحدث إلا الرئيس!!.

كاتب وإعلامي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية