بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 التي أفرزت سيطرة حركة النهضة على السلطة في تونس، شهدت الدبلوماسية التونسية حالة من التسيب والاضطراب والانحطاط، مما ساهم في المس من سمعة ‘الثورة’ التونسية، والتسبب في حالة من التشنج والاضطراب في العلاقات التونسية مع عديد البلدان. تعود أسباب هذا الانحطاط في الديبلوماسية التونسية إلى عدة أسباب: انعدام الكفاءة والتجربة، ومهادنة منظومة الفساد: منذ صعود الإخوان إلى السلطة في تونس، بان ضعفهم في السياسات الداخلية والخارجية. فالتنظير السياسي ومعارضة النظام من على الربوة، يختلف عن ممارسة السياسة في مؤسسات دولة لها تاريخها وعراقتها وعلاقاتها ومصالحها الإستراتيجية. هذا بالرغم من أن الديكتاتوريات البورقيبية والبنعلية ارتكبت عديد الجرائم في حق البلاد والعباد، وتركت إرثا من الفساد والإنحرافات، كما ساهمت في إرساء تحديث مغشوش في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية… لكن هذا لا يمنع أن الشعب التونسي له إرث مشترك يتمثل في هذه الدولة بتقاليدها الديبلوماسية العريقة، والتي ساهم في بنائها كوادر وكفاءات صادقة لا علاقة لها بالفساد. إلا أن الإخوان فوتوا الفرصة على الشعب التونسي لتخليص هذه الدولة من الفساد والمحسوبية والانحرافات من خلال مهادنتهم المنظومة الاستبدادية، والحفاظ على نفس أوتوماتيزمات الفساد التي تخدم مصالحهم الحزبية ومنهجيتهم في عملية التمكين. فالحفاظ على نفس المنظومة الاستبدادية في أجهزة الدولة يؤثر حتما على الدبلوماسية والعلاقات الخارجية، فالنزاهة والشفافية والكفاءة الدبلوماسية تنطلق من الداخل. أسباب إيديولوجية: لا يمكن الحديث عن انحطاط الدبلوماسية في تونس دون الأخذ بعين الاعتبار تأثير الإيديولوجية الإخوانية. فالإخوان يعتمدون على الإيديولوجية القطبية التكفيرية التي تقوم على إثارة التناقضات والتكفير عبر تقسيم المجتمع إلى محور خير (إخواني) ومحور شر (غير إخواني). ويتميز التيار الإخواني بالعالمية، فهو يسعى لإقامة فروع في عديد البلدان من أجل خلق التناقضات والتوغل في مفاصل الدول والمجتمعات سعيا للانقضاض على السلطة عبر مراحل (التمكين). ومن بين الأهداف الإستراتيجية التي يتشدق بها الإخوان هي توحيد ‘الأمة’ أو إقامة ‘الوحدة الإسلامية’. فالإخوان يسوّقون مصطلح الأمة كمفهوم هلامي غامض لا حدود ولا معنى له على مستوى الزمان والمكان والبنية الاجتماعية والعرقية والإيديولوجية، فهم لا يؤمنون بمفاهيم الدولة القومية والهوية الوطنية التي تُعتبر أساسا لبناء الدبلوماسية الوطنية ولإرساء أي تقارب أو ‘وحدة’ بين شعوب لها قواسم مشتركة قد تستغلها للتكتل وتأسيس اندماجات اجتماعية- اقتصادية – ثقافية – حضارية. ففي أوروبا مثلا وقع تقديم الاقتصاد والقواسم المشتركة على الإيديولوجيات والعرقيات والتنوع الديني والعقائدي. فالوحدة الأوروبية كانت انطلاقا من دول قطرية-قومية تجاوزت العرقيات والأديان نحو الاقتصاد والمشترك الثقافي والحضاري. القاعدة الشعبية للإخوان تتعامل مع السلطة بمنطق الولاء والبيعة في إطار زماني ومكاني غير محدود، على عكس ما هو متعارف عليه في القواعد الديمقراطية الحديثة حيث تستمد الأنظمة مشروعيتها انطلاقا من تفويض مدني يقوم على أساس البرامج والكفاءة والمردود السياسي والإداري. ومن جهة أخرى يتميز التيار الإخواني بقابلية عجيبة للانبطاح وتقديم التنازلات في جميع المجالات من خلال الخصخصة العشوائية والتفويت في المقدرات القومية الإستراتجية، وهذا يعود إلى التكوين الإيديولوجي الإخواني الذي يقوم على أساس الحشو بمفاهيم متعالية خارجة عن الإطار الزماني والمكاني، بحيث يفتقد السياسي الإخواني إلى النظرة الموضوعية على محيطه القومي والعرقي والتاريخي والحضاري التراكمي المتنوع والمركب. فالحشو العشوائي بنظريات ومفاهيم ميتافيزيقية لا تأخذ بعين الاعتبار البعد القومي والوطني والهوياتي، يجعل التيار الإخواني يلهث وراء سراب ‘الأمّة’ بمفهومه الهلامي الغامض الذي لا يخضع للمنطق والضوابط الزمانية والمكانية، ولا يأخذ بعين الاعتبار سنن البشر والتاريخ. فالسياسات الإخوانية مهما بان عليها من لين و تطوّر فإنها تدور في فلك الهوس الإيديولوجي بالتمكين و ‘مشروع الأمة’ الذي تُرتكب في سبيله عديد الجرائم في حق الوطن وذلك باسم فقه التقيّة. وهذا ما يجعل الشعوب الرازحة تحت وطأة الحكم الإخواني منسلخة عن ذاتها الحضارية والقومية وغارقة في التخلف والضياع والرجعية والتبعية للشعوب الأخرى. ولعل ما جرى ويجري للسودان من تقسيم وانحطاط رغم إمكانياته البشرية والطبيعية الخرافية يعتبر أفضل مثال على ذلك. الدخول في لعبة المحاور: انطلاقا مما أشرنا إليه في الفقرة السابقة، نستنتج أن الإيديولوجية الإخوانية وبالرغم من قيامها على شعارات الهوية والأصالة والتجذر، إلا أنها في الحقيقة تقوم على طمس هوية الشعوب والقضاء على هوياتها الوطنية ومقوماتها القومية، ليس القومية بأبعادها الشوفينية الرجعية، إنما القومية بمضامينها الحضارية والتاريخية التي تحافظ على الوحدة والإعتزاز بالإنتماء. ما يُعرف عن التيار الإخواني أنه يدور في فلك ذلك المحور المدعوم أمريكيا وأطلسيا، والمتمثل في الثالوث الشهير قطر-تركيا-الإخوان. و يقوم المشروع الإخواني على تقديم الولاء الأعمى والإنبطاحي للولايات المتحدة واللوبي الصهيوني، وذلك بالتنسيق مع عديد المنظمات التي تعمل بالوكالة على غرار مركز دراسة الإسلام والديمقراطية ومنظمة آيباك الإسرائيلية-الأمريكية، هذا مقابل الحصول على الضوء الأخضر للحكم مع الحفاظ على كراس شروط أمريكي إسرائيلي). وقد تسبب إخوان تونس في إثارة تشنج في العلاقات مع عديد البلدان التي لا تستسيغ المشروع الإخواني على غرار السعودية والكويت والجزائر وبالأخص الإمارات… وهكذا وجدت تونس نفسها داخل محور متشعب وغامض تقف وراءه لوبيات مرتبطة بالصهيونية (منظمة آيباك وبعض مراكز الدراسات الأمريكية)، وتيار من المحافظين الجدد في الولايات المتحدة بقيادة ماكين، إضافة إلى قطر وتركيا التي تحمل أطماعا قومية توسعية يقودها التيار الإسلامي ما بعد أربكان المتمثل في حزب العدالة والتنمية، الذي على عكس التنظيم الإخواني في تونس، تصالح مع الموروث التركي وحافظ على النزعة القومية التركية، بحيث يكون الطابع الإيديولوجي الإسلامي مكملا للنزعة القومية-الوطنية التركية ووسيلة لتحقيق التوسع الاقتصادي والتجاري والإستراتيجي… كانت مواقف رئيس الجمهورية منصف المرزوقي ووزراء الإخوان في ما يخص عديد القضايا العربية والإقليمية متماشية مع هذا المحور. وآخر المواقف كان الموقف من الأحداث الأخيرة في مصر، حيث كانت تصريحات المنصف المرزوقي ووزراء النهضة خاضعة لمنطق الإيديولوجية والإنتماء للجماعة والمحور، في وقت تحتاج فيه تونس إلى مواقف أكثر تعقلا والتزاما باعتبار أن ما يجري في مصر يعتبر شأنا شعبيا داخليا خاضعا لديناميكة اجتماعية تستوجب موقفا يميل نحو الحياد والدعوة إلى المصالحة بعيدا عن أدلجة الديبلوماسية وإخضاعها لخدمة المحاور العالمية التي لن تفيد تونس بشيئ. ومن أبرز المواقف التي أبرزت انحطاط الديبلوماسية التونسية، الموقف من القضية السورية عندما احتضنت حكومة النهضة مؤتمر أصدقاء سوريا وقامت بطرد السفير السوري. تركيا اليوم تعيش مأزقا حقيقيا بعد أن اشتد الخناق عليها نتيجة دعمها للإخوان وتدخلها في سوريا. فبعد التطورات الأخيرة التي استرجع فيها نظام الأسد مشروعيته أمام الأسرة الدولية، خسرت تركيا الخط الممتد من إيران نحو سوريا ولبنان، مثلما خسرت مصر بعد إسقاط حكم محمد مرسي. ومن جهة أخرى خسرت حوالي 13% من معاملاتها التجارية مع الدول العربية خلال أقل من سنة، هذا دون الحديث عن عديد الصفقات والاستثمارات الإماراتية والسعودية التي خسرتها، على غرار تعطيل الإمارات لمشروع استخراج الفحم الحجري قرب أنقرة، هذا المشروع الذي كان من المتوقع أن تموله الإمارات بمبلغ 12 مليار دولار، والذي كان يحمل آمال الأتراك في التخفيف من أعباء استراد الطاقة… مقابل هذا، ما زال إخوان تونس يزورون تركيا الجريحة والمنهوكة والمعزولة للتخطيط لحماية مشروعهم الإخواني، وما زالوا يرفعون شعارات ‘رابعة’، و يتراقصون داخل أجهزة الدولة بسكراتهم الإيديولوجية، ويقضون فترة مراهقتهم السياسية على حساب مصلحة الوطن. أما رئيس الدولة فما زال يتحدث عن ‘الإنقلاب’ الذي جرى في مصر، وما زال يستثمر نزعته ‘الحقوقية’ لخدمة المشروع الإخواني، متناسيا أنه رئيس دولة لها تاريخها وثوابتها ومصالحها الإستراتيجية والديبلوماسية والأخلاقية. لقد ساهمت لعبة المحاور هذه في عزل تونس عن عمقها العربي انطلاقا من الجزائر ومصر وصولا إلى السعودية والإمارات، أما الجانب القطري فلقد بانت أوهام ‘صداقته’ لتونس… إن تونس اليوم تحتاج إلى حكومة وطنية ولاؤها لتونس قبل الجماعات والمحاور واللوبيات والتنظيمات.