تعيش تونس هذه الأيّام على وقع حراك سياسي وشعبي ودبلوماسيّ يبدو في ظاهره محمودا ذلك أّنّه يعبّر عن درجة وعي التونسي ودرجة وعي قد بلغتها النّخبة السّياسيّة التونسيّة سواء في شكل الحكم أو شكل المطالبة أو حتّى شكل إدارة الصّراع السّياسيّ بين فرقاء الوطن الواحد، وما جملة الاعتصامات التي تعيشها البلاد إلا تعبيرا عن ذلك. لكنّ المتأمّل المتبصّر خلف هذا الحراك لابدّ وأن يخرج بجملة من الملاحظات إذا كان هذا المتأمّل منتصرا لثورة 17 ديسمبر العظيمة أو مشاركا فيها أو أخذته أحلامه بعيدا في رؤية هذا الوطن العزيز حرّا مستقلا متقدّما. إنّ الملاحظة الأولى التي نخرج بها هي أنّ الثورة التونسية قد وقفت في منتصف الطريق حين سلمت رقبتها لهيئة منصّبة ولرئيس وزراء كان في يوم من الأيام خادما في برلمان بن علي ومن ذلك الوقت بدأ وأد الثورة التونسيّة وتوجيهها وجهة جديدة قوامها التخويف على نمط مجتمعيّ أقامه بورقيبة وبن علي على أنقاض التخويف والترهيب ليصبح الصّراع لا على أساس مطالب الثّورة ولا على أساس برامج اقتصاديّة وتنمويّة ،بل على أساس مرجعيّات ايديولوجيّة صبيانيّة وصراع محموم بين اليسار والاسلاميين عاشه شيوخ هذه الأحزاب في الجامعة التونسيّة وغذّته السّلطة المستبدّة كي تحافظ على وجودها ولم نعشه نحن شباب التسعينات. أمّا الملاحظة الثّانية فتتّصل بنظرة الأحزاب للثّورة ولشعاراتها البسيطة والمعبّرة وأهمّها (شغل حريّة كرامة وطنية) بدءا من حركة النهضة وانتهاء إلى الأحزاب المنبثقة من رحم التجمّع المخلوع ، فتجد كلّ زعماء الأحزاب يتحدّثون عن الثورة وعن الشّهداء فقط لاستعطاف الناس والانقضاض على كرسيّ تركه بن علي شاغرا دون إدراك حقيقي لمطالب الثّورة ولا لأهدافها فهمّش الحديث عن الثّورة بل وصل الأمر ببعضهم للسّخرية حينا وتشويه الثّوّار حينا آخر في لعبة خلط أوراق مشبوهة فجمّد قائدو الحراك الثوريّ في الجهات من نقابيين وعوّضوا بالفاسدين والموالين وشوّه النّوّاب المطالبون بالمحاسبة بل واتّهموا بالجنون وضيّق عليهم في وسائل الإعلام. . أمّا الملاحظة الثّالثة فتتّصل بالمنظّمات والجمعيّات وعلى رأسها الاتّحاد العام التونسي للشّغل ، هذه المنظّمات التي اخترقها التّجمّع الدستوري في قياداتها ليزرع فيها جملة من’الموالين لسياسة المخلوع كي تصبح بوق دعاية سمجة للنظام وتتخلى عن دورها المجتمعيّ الحقيقيّ وليس أدلّ على ذلك موقف قيادات الاتّحاد من الثورة حين كان النقابيون من القواعد الدنيا خاصّة يقودون المظاهرات ويذبحون على محراب سيّارات البوليس وما الرّسالة التي أرسلها عبد السّلام جراد يوما قبل هروبه والتي يحرّضه فيها على النقابيين إلا خير دليل على ذلك هذا دون أن ننسى بعض المنظّمات الحقوقيّة كرابطة حقوق الإنسان و النسوية كاتحاد المرأة والنساء الديموقراطيّات. الملاحظة الرّابعة تتّصل بالإعلام بشقّيه العموميّ والخاصّ ، فهذا الإعلام ـ الذي أثار سخط التونسيين طيلة حكم المخلوع بالتزييف والتخوين والتلفيق والتأليه ـ أجهز على ما تبقّى له من ماء وجه أيّام الثّورة حين انبرى يلمّع وجه النّظام ويبرّر جرائمه ليعود بعد مدّة من انحساره أيّام الثّورة في مشهد أكثر قبحا. هذه هي الدّولة التونسيّة التي كانت أشبه بعائلات المافيا الايطالية التي يتقاسم فيها كل فرد دوره وينال نصيبه من الغنائم أما بقية الشعب فكان غارقا في المظالم والتفقير والتجهيل ولا ينجو أحد منه إلا إذا انخرط في هذه العصابة ، فلمّا قامت الثّورة اعتقد التونسيون أنّهم تخلّصوا منها إلى الأبد وأنّ الثورة ستأتي بمنظّماتها وأحزابها ومثقّفيها وستقضي على أذيال العصابة بعد هروب زعيمها لكن بمرور الأيّام بدأ هذا الحلم بالتّبخّر رويدا رويدا بل وعادت العصابة للتّشكّل بصورة أبشع من ذي قبل وأكثر دمويّة مستغلّة كلّ الطّرق اللاشرعيّة بدءا بالمال الفاسد وانتهاء بالعمالة المفضوحة لدول هي أقلّ كثيرا من عراقة تونس وتاريخها كي لا أقول كلمة أخرى وقد ساعدت حكومتنا الموقّرة (الثوريّة ) في التمكين لهذه العصابة وفي وأد أحلام الثّورة بالانبطاح والخنوع والانشغال بالسيطرة على مفاصل الدولة وتوظيف نفس فاسدي العهد السّابق من أجل هذه السّيطرة ضاربة عرض الحائط بمطالب المحاسبة والقصاص العادل من الفاسدين ودافعة بشقّ كبير منّا إلى اليأس القاتل. من هنا يمكن أن نعتبر هذا الحراك إيذانا حقيقيا بثورة مضادّة أطلّت برأسها في مصر وهاهي تطلّ في تونس منذرة بأكل الثوّار وإعادة نظام أكثر وحشيّة من ذي قبل مستغلّة نفس أدوات النّظام البائد من إعلام فاسد ومن اتّحاد الشّغل وبقيّة المنظّمات الأخرى ومغرّرة بشباب’من بعض الجهات التي انطلقت منها الثّورة ومستندة على شرعيّة انتهت لمجلس تأسيسي هو مواصلة لدولة بن علي وليس موال للثورة إلّا بعض نوّاب . لكن رحيل هذا المجلس هو بداية لثورة ثانية حقيقية ستقتلع ما تبقى من النظام القديم وقد بدأها بعض الشّباب بالفعل في تحرّك دعوا إليه يوم 17 اغسطس.