تونس: درس عملية شارع بورقيبة

حجم الخط
12

لعلها اللطمة التي ربما يستفيق بها الجميع من سباتهم ويراجعون حساباتهم!! التفجير الانتحاري الذي أقدمت عليه سيدة أمس الأول في قلب شارع الحبيب بورقيبة بدا صادما إلى درجة أن من يوجه إليهم عادة اتهام التسبب في مناخ يسمح بعمليات من هذا القبيل هم من سارعوا، قبل غيرهم، إلى نقد ذواتهم قبل أن ينهال عليهم التقريع من كل حدب وصوب هذه الأيام.
كان ملفتا مسارعة الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي إلى وصف ما جرى بــ «الفاجعة» والاعتراف بأن المناخ السياسي في البلاد «سيئ» وبأن هموم الطبقة السياسية منصرفة حاليا إلى المناصب ومناكفات الأحزاب مع أن «ليست هذه هي مشاكل تونس»، داعيا إلى إعادة النظر في ترتيب أولويات البلاد بعيدا عن التجاذبات السياسية.
وإن كان من الطبيعي جدا أن تسارع كل الأحزاب إلى إدانة العملية الإرهابية التي وقعت في قلب العاصمة، بما يوجه رسالة إلى الجميع أن الإرهاب بدأ يعبث من جديد وسط الناس وليس في تخوم المدن فحسب، فإن من المهم النظر إلى دعوة الاتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد نقابات العمال) الأطراف السياسية إلى «أخذ العبرة» مما حدث و «الابتعاد عن التجاذبات التي منحت الإرهابيين فرصة لتنفيذ مخططاتهم».
وإذا كان رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي رأى في تنفيذ العملية في شارع الحبيب بورقيبة بعدا خاصا «بما يمثله هذا الشارع من رمزيّة تتجسّد خلاله قيم الحريّة والديمقراطية وباعتباره أيضا إطارا للتنزّه والترفيهِ»، فإن للرمزية وجها آخر حيث إن بقاء جثة منفذة التفجير لفترة طويلة ملقاة على الأرض دون أن تغطى، بدا وكأنه إبقاء متعمد لمنظر بشع على كل الطبقة السياسية أن تمعن النظر فيه قبل أن تنظر إلى نفسها ثانية في المرآة.
لم يكن خافيا أبدا أن الحياة السياسية في تونس تعاني ومنذ أشهر حالة من الترهل، وحتى التفاهة، اخترقت الجميع فلم تسلم منها رئاسة الجمهورية ولا رئاسة الحكومة ولا البرلمان، حتى فقد الناس تقريبا الثقة فيها جميعا مع نظرات خيبة أمل، وحتى استخفاف، باتت تلاحق أكبر الأحزاب وأصغرها وأسئلة حارقة تتعلق بحسابات اتحاد الشغل وتلويحاته أو تهديداته بإضرابات لا تقف. أما الأخطر من كل ما سبق، وغيره كثير، شعور عام متنام بأن كل السياسيين في البلاد من إسلامييهم ويسارييهم وليبرالييهم وكل تصنيفاتهم المعلنة والخفية ليسوا بأولئك الذين يعلون مصلحة البلاد والعباد، بل إن ما يحركهم هو مصالحهم الشخصية ليس إلا، أو حيانا في أكثر مستوياتها تدنيا.

عندما تكون المناخات السياسية السلبية مقترنة بضائقة اقتصادية، يشعر بوطأتها الجميع وأولهم الفقراء تتجلى أكثر فأكثر الهوة الكبيرة الفاصلة بين الناس وهمومهم والسياسيين وحساباتهم

عندما يرى المواطن أن أغلب الأحزاب لا هم لها إلا الكيد لبعضها وتغيير تحالفاتها داخل البرلمان بشكل كوميدي غريب، وأن البعض الآخر لم يغادر بعد مربع الخصومات الأيديولوجية التي عرفها سنوات النضال في الجامعة، وعندما يرى أن كل ما سبق لم يؤد في نهاية الأمر سوى إلى مزيد تفشي الفساد، ومراعاة لوبياته المختلفة لبعضها البعض أو تصادمها، وأحيانا توظيفها لمؤسسة القضاء عن حق أو باطل، وأن منطق الصفقات وتصفية الحسابات الصغيرة جدا هو المحرك الأساسي للمشهد السياسي… عندما يرى كل ذلك، فإن النتيجة لن تكون إلا ما يشبه الاستقالة الجماعية المولـّــدة للفراغ الذي لن يستفيد منه إلا أعداء التحول الديمقراطي و أولهم طبعا الإرهابيون و من يرعاهم و يمولهم.
وعندما تكون كل هذه المناخات السياسية السلبية مقترنة بضائقة اقتصادية، يشعر بوطأتها الجميع وأولهم الفقراء الذين يزدادون فقرا والطبقة المتوسطة المتآكلة، تتجلى أكثر فأكثر الهوة الكبيرة الفاصلة بين الناس وهمومهم والسياسيين وحساباتهم.
كلام الرئيس قايد السبسي والطريقة التي تحدث بها متأثرا للتلفزيون التونسي تشي بأن صدمة التفجير الانتحاري أعطت مفعولها في اتجاه «عودة الوعي» والتحرك العاجل لإعادة الحد الأدنى من الجدية لقواعد اللعبة السياسية في البلاد بما يبعدها في أسرع وقت ممكن عن كل ما علق بها من أدران في الفترة الماضية أضعفت مد التغيير الديمقراطي وعطلت الكثير من مفاعيله الأولى عقب الإطاحة بنظام بن علي عام 2011.
أسوأ ما يمكن أن يحدث لتونس، إذا لم يتعظ السياسيون سريعا بدلالة التفجير الانتحاري ليوم الاثنين ويعيدون ترتيب اجندتهم بالكامل، أن تصبح تونس تدريجيا مثل لبنان. بأي معنى؟؟ بمعنى أن يستقر تدريجيا كبلد ينعم بانتخابات غير مزورة وحرية تعبير واعلام لا حدود لها ولكن بطبقة سياسية فاسدة وأوضاع اقتصادية مزرية، واهتزازت أمنية بين الفينة والأخرى، وأن يسلم الناس أمرهم لله في النهاية بأننا لا نملك إلا هؤلاء وأنهم أفضل من الفراغ أو الفوضى.
من حسن حظ تونس أنها ليست لبنان لا في تعقيداته الطائفية ولا في رهانات الموقع الجغرافي وتحدياته ولذا فإن لتونس فرصة جيدة أن تنجو من بؤس مثل هذا المآل، خاصة مع وجود مجتمع مدني واع و نشيط، رغم أن عددا من الدول العربية لا تريد لتجربة تونس أن تكلل بالنجاح كنموذج يمكن أن يحتضن الجميع و لا يقصي أحدا، لكن لا مفر من الخطوة الأولى التي يجب أن تكون اتعاظ السياسيين، بقوة و سرعة، من العملية الأخيرة التي من ألطاف الله أنها لم تسفر عن مجزرة بين المدنيين، فهل هم فاعلون؟!!

كاتب وإعلامي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود:

    هناك تعصب ديني بتونس, وهناك أيضاً تعصب علماني! أي الفعل (وأقصد تغيير شرع الله) وردة الفعل العنيفة!! ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول تونسي ابن الجمهورية:

      العملية الأخيرة تدل على يأسهم اكثر من شئ اخر ….قنبلة بدائية….ارهابية بدائية….و نتيجة بدائية اصفرت عن موت هذه المجرمة الهاوية …الدولة التونسية المدنية العلمانية ستنتصر على هؤلاء التعساء الذين لا يعرفون إلا الموت و الخراب.. بمزيد من الإصلاح و مزيد من الحرية و مزيد من الديمقراطية و مزيد من المساواة و مزيد من العدالة و مزيد من احترام حقوق الانسان حتى مع هؤلاء الوحوش الذين لا يمتون للانسانية بصلة ….الحياة هى من ينتصر ….و ليس الموت …..الاسبوع القادم سيقدم مشروع المساواة فى الميراث إلى البرلمان لننتصر إلى مزيد من المساواة التامة ….هذه هى الإجابة الصحيحة لأعداء الحياة ….تحيا تونس تحيا الجمهورية و لا ولاء إلا لها

  2. يقول غادة الشاويش -الاردن:

    شكرا على المقال الذي عبر الايديولوجيا والزقاق الحزبية الضيقة الانانية المعتمة وكان بحجم وطن سلم قلبك وقلمك استاذ كريشان وشكرا للمقال العالي المقام ولا زلنا نطمح كشعوب عربية الى ان تنهض الاحزاب المؤدلجة وغيرها من كبواتها لتشفى جروح اوطاننا الغائرة من الدكتاتوريات التي اوجبت علينا ان نلعق جراحنا وندبات حكمها لسنين اتية واضعف الايمان ما دعا اليه المقال سلم الله تونس واهلها وابقاها منارة الحرية والديمقراطية الواعية
    قارئتكم المحبة غادة

    1. يقول محمد كريشان:

      شكرا لكلماتك الطيبة سيدتي غادة.

    2. يقول تونسي ابن الجمهورية:

      بالطبع سيدة غادة “سلم الله تونس واهلها وابقاها منارة الحرية والديمقراطية الواعية” و انا اضيف لدعائك و ابعد عنها الارهابيون القتلة أصحاب أيديولوجية الظلام التعيس أعداء الحرية و الديمقراطية الواعية…..تونس تعج بالوطنيين التونسيين الذين يؤمنون بأمتهم التونسية ….ولن يتركوا مجموعة من المجرمين الإرهابيين القتلة أعداء الانسانية الذين خرجوا من التاريخ و الجغرافيا ان يعطلوا الاصلاحات اللازمة التى تقوم بها تونس لنصل اخيرا إلى الديمقراطية الواعية … .تحيا تونس تحيا الجمهورية و لا ولاء إلا لها

  3. يقول سامح //الأردن:

    *أولا ؛العملية الإرهابية (فردية) وسبق
    وقلت قاتل الله كل من يقف خلفها.
    ثانيا ؛ الفقر والظروف الاقتصادية الصعبة
    ليس مبررا وليس عذرا للعمليات الإرهابية
    القذرة الحقيرة .
    ثالثا ؛ نعم على جميع (الأحزاب) الإهتمام
    بالوطن والمواطن قبل المصالح(الشخصية).
    سلام

  4. يقول المغربي-المغرب.:

    التطرف يا استاذ كريشان هو في الأصل حالة نفسية ناشئة عن العجز عن استحضار وإدراك مختلف الجوانب المتعلقة بالموضوع. ..ونجده في مختلف الأفكار والايديولوجيات….والممارسات السياسية. ..وهو سلاح تخريبي فعال استعمله الأستعمار في مختلف المراحل والأزمنة. …ومما يزيد في تغلغله شيوع الفساد …والعبثية والتبعية العمياء في تدبير الشأن العام….وتكريس ديكتاتورية الأقليات الفكرية والسياسية المستقوية بدول الهيمنة الكبرى….وبالتالي فإن حصول التطرف وتكريسه ليس ببعيد عن يد الأنظمة المستبدة التي تكتسب مشروعيتها من عواصم ومطابخ الدول الاستعمارية….ولايصح إلا الصحيح…

  5. يقول S.S.Abdullah:

    يومغ بعد يوم تثبت لي تعليقات تونسي ابن الجمهورية، تبين مستوى التطرف في جانب مدعي الحياة على حساب التخلص ممثلي ثقافة الآخر

    1. يقول ارض الله واسعة:

      لا اله الا الله …لا تعره اي اهتمام يوجد منه الكثير في بلدان تحتاج لسنوات ضوئية لمعرفة معنى الدولة و مفهوم المواطنة .مجرد بيادق للانظمة الحاكمة التي هي في الحقيقة مجرد خدم و حراس للقوى العظمى

    2. يقول تونسي ابن الجمهورية:

      @أرض الله : انا لست هنا لكى يعيرنى أحدهم اهتمام انا هنا لأدافع عن أفكارى و عن بلادى الغالية تونس ….الجمهورية التونسية و من يحارب الجمهورية التونسية بقتل الابرياء فيها….هو من لا يؤمن لا بالدولة و لا بعلمها و لا بتاريخها و لا بحاضرها و لا بدستورها …..تحيا تونس تحيا الجمهوريه و لا ولاء إلا لها

  6. يقول S.S.Abdullah:

    يوما بعد يوم تثبت لي تعليقات (تونسي ابن الجمهورية)، تبين مستوى التطرف في جانب مدعي الحياة، وبالتأكيد على حساب التخلص ممثلي ثقافة الآخر، فلم لوم الآخر إذن؟!

    1. يقول تونسي ابن الجمهورية:

      @SS الإرهاب الإجرامى ليس وجهة نظر و لا تبرير له و يجب محاربته بكل الوسائل ….هل لديك رأى أخر ؟؟؟ ….هل يجب ان نتفاوض مع المجرمين او نطبق عليهم القانون؟؟؟؟ ….هل يجب ان نكيف حياتنا وفق ما يعجب هؤلاء القتلة اما لا ؟؟؟؟….التطرف الوحيد هو تفجير أحدهم فى الابرياء و قتلهم بدون رحمة او شفقة ….هذه الإرهابية كان يمكن ان تحدث مجزرة اطفال نساء رجال يتجولون فى هذا الشارع ….لكن الحمد لله لم تحصل الكارثة …..الإرهاب يجب القضاء عليه و على كل من يسانده او يفتح له شباك لكى يتنفس منه….. تونس دولة ديمقراطية هناك 200 حزب سياسي و 18000 جمعية مدنية كل هذا لا يعجبهم الذى يعجبهم هو قتل الابرياء و هؤلاء لا يعيشون إلا فى الدماء و الخراب اتمنى فقط و من كل قلبي ان لا يصاب قريب لك فى عملية ارهابية إجرامية ….تحيا تونس تحيا الجمهورية و لا ولاء إلا لها

إشترك في قائمتنا البريدية