تونس: سعي للقضاء على التشغيل الهشّ رغم الوضع المالي الصعب

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: التشغيل الهشّ الذي تعاني منه تونس إلى اليوم، رغم الإجراءات الجديدة المتخذة للقضاء عليه، هو العمل في ظروف غير مستقرة وغير آمنة وذلك من خلال عدة طرق على غرار التشغيل غير الرسمي الذي لا يتمتع فيه العامل بالحقوق والضمانات القانونية والتأمينات الاجتماعية، والحد الأدنى للأجور، وظروف العمل الصحية. ويشمل التشغيل الهش أيضا العمل المؤقت وهو العمل بعقود مؤقتة أو قصيرة الأجل وتفتقر إلى الاستمرارية والأمان الوظيفي الممنوح للعمال في العمل الرسمي الذي يحصل فيه الترسيم بشكل نهائي.

كما يشمل التشغيل الهش العمل بعقود محددة المدة يستخدم فيها أصحاب العمل اتفاقات كتابية أو شفوية محددة المدة وذلك بشكل متكرر لتجنب التزامات العمل الدائم، وكذلك العمل بأجور منخفضة أقل من الحد الأدنى المقرر أو بأجور لا تكفي تكاليف المعيشة الأساسية. وأخيرا يشمل التشغيل الهش العمل في ظروف سيئة وغير صحية وغير آمنة في أماكن العمل، مثل نقص معدات الحماية، والبيئة غير المناسبة، وتجاهل حقوق العمال والحق النقابي وعدم الحصول على الإجازات المرضية، والإجازات السنوية، وظروف العمل العادلة.

إجراءات عديدة

يؤكد الباحث التونسي في علم الاجتماع وليد الطرودي في حديثه لـ«القدس العربي» أن أهم الإجراءات التي يمكن اتخاذها لمقاومة التشغيل الهش وما يسمى في تونس بعقود المناولة وذلك بهدف تحسين ظروف العمل وتعزيز الأمان الوظيفي والاستقرار، مراجعة وتحديث قوانين الشغل لتضمن حقوق العاملين في كل القطاعات، وتضمن أيضا تنظيما أفضل لعقود المناولة والعمل الهش، مع تعزيز حماية العمال من خلال ضمان حماية حقوقهم بشكل أكثر فعالية. ولا بد أيضا، حسب محدثنا، من تعزيز الرقابة على تطبيق القوانين وتحسين قدرة الجهات الرسمية على مراقبة هذا التطبيق الصارم للقانون مع ضمان التزام الشركات بشروط العمل وفرض عقوبات صارمة على التي تنتهك حقوق العمال أو تستخدم عقودًا هشة بشكل غير قانوني.
ويضيف محدثنا قائلا: «لا بد أيضا من إصلاح وتنظيم عقود المناولة وتحديد شروط واضحة للحد من استغلال العمال مع مراقبة شركات المناولة وضمان التزامها بالمعايير القانونية والعمالية. كما يجب الاهتمام بمسألة تحسين بيئة العمل وذلك بتوفير شروط عمل آمنة من خلال التأكد من أن جميع أماكن العمل تلتزم بمعايير السلامة والصحة المهنية مع دعم تدريب العاملين على مهارات جديدة وتحسين كفاءاتهم لمواجهة التحديات في سوق العمل.
ومن بين الإجراءات أيضا ضرورة تشجيع الشركات من خلال الحوافز على التوظيف الرسمي للعمال بدلاً من التوظيف غير الرسمي مع تبسيط إجراءات تسجيل هذه الشركات لتشجيعها على الانتقال من الاقتصاد غير الرسمي إلى الرسمي. ولا بد أيضا من تطوير برامج الأمان الاجتماعي من خلال توفير الدعم للعاملين في القطاعات الهشة بالاعتماد على التأمينات الاجتماعية والمساعدات المالية والقانونية لتحفيزهم على المطالبة بحقوقهم».
ويعتبر محدثنا أن تحسين التعليم والتدريب المهني وتحديث المناهج الدراسية لتتضمن المهارات المطلوبة في سوق العمل، مع إنشاء شراكات بين المؤسسات التعليمية والشركات أمر على غاية من الأهمية لمحاربة التشغيل الهش. ويعتبر أيضا أنه لا بد من حوار اجتماعي فعال بين جميع الأطراف يضم بالخصوص الاتحاد العام التونسي للشغل وأرباب العمل ممثلين بالاتحاد التونسي للصناعة والتجارة وممثلين عن الحكومة، وذلك لإيجاد الحلول لهذه المعضلة.

عمال الحضائر

لقد أدركت السلطات التونسية أنه حان الوقت لحل مشكلة التشغيل الهش فكانت البداية بملف ما يسمى بعمال الحضائر الذين قامت بتشغيلهم حكومات ما بعد ثورة 2011 لامتصاص ضغط البطالة، وذلك رغم غياب السيولة المالية الكافية لانتداب هؤلاء رسميا في الوظيفة العمومية وتوفير رواتب لهم. فهذا الملف الذي استغلته الحكومات المتعاقبة في مختلف المحطات الانتخابية بدا للجميع أنه ملح وهام جدا في أبعاده الاجتماعية والإنسانية والنفسية فحظي بالأولوية في المعالجة الحكومية لآفة التشغيل الهش.
وللإشارة فقد تم الاتفاق في وقت سابق، بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل على تسوية وضعية ملفّات عمال الحضائر في أقرب الآجال من خلال توظيفهم بشكل رسمي على دفعات، وذلك بعد تقسيمهم إلى ثلاث شرائح، تشمل الأولى من سنّهم أقل من 45 سنة والثانية من تتراوح أعمارهم بين 45 و 55 سنة، فيما تشمل الشريحة الأخيرة من يفوق سنهم 55 عاما. إلا أن الدولة نفسها تلكأت بعد ذلك في الإيفاء بالتزاماتها ولم تقم بتشغيل وترسيم كل المشمولين بالاتفاقية، فبقي 1400 من إجمالي 6000 دون أن يتم إلحاقهم بوظائفهم الجديدة.
لكن في الآونة الأخيرة، وبعد الإذن بتسوية وضعية عمال الحضائر وإلغاء المناولة، تم تشكيل لجنة وطنية للغرض قامت بتوزيع من تبقى من عمال الحضائر على المراكز الشاغرة، وهؤلاء هم الذين لم يتمكنوا من الحصول على تعيينات في البداية، ولعل السؤال الذي يطرح اليوم بإلحاح هل أن الدولة قادرة على الإيفاء بالجوانب المالية لهذا الإجراء وضمان أجور الملحقين الجدد بشكل رسمي بالقطاع العام في طل الأزمة التي تعيشها وفي ظل مطالبة الجهات المانحة بالتقليص في كتلة الأجور؟

ضغط مستمر

ترى الناشطة الحقوقية آمنة الشابي في حديثها لـ«القدس العربي» أن العبء المالي الجديد الذي ستتحمله الدولة والمتمثل في أجور هؤلاء العمال الذين تم ترسيمهم ليس بالكبير الذي يجعل الدولة عاجزة عن الإيفاء به، لكن المعضلة تتمثل برأيها في أن أعداد الملحقين بالوظيفة العمومية مرشح للزيادة إذا تمت تسوية وضعية شرائح أخرى ممن يعانون من التشغيل الهش. فمن يسمون في تونس بالأساتذة والمعلمين النواب، وهم مدرسو التعليم الابتدائي والاعدادي والثانوي غير المرسمين والذين ينالون أجورا زهيدة مقارنة بالجهد الذي يبذلونه، تمت، حسب الشابي تسوية وضعيات الكثير منهم فيما المرجح أن يتم إلحاق البقية بشكل رسمي مع هذه الحملة للقضاء على التشغيل الهش.
وتضيف محدثتنا قائلة: «بالتالي ومع ارتفاع أعداد الملحقين بالوظيفة العمومية قد تجد الدولة التونسية صعوبات في المستقبل في توفير أجور ورواتب من تمت تسوية وضعياتهم من خلال ترسيمهم بشكل رسمي. وينطبق الأمر ذاته على القطاع الخاص حيث ستفرض الدولة على المؤسسات الخاصة تسوية وضعية عمال القطاع الخاص الذين يشتغلون في إطار عقود التشغيل الهش وهو ما لا يتناسب مع الوضعية المالية لهذه المؤسسات التي تمر بصعوبات اقتصادية.
فالقطاع العام وجزء هام من القطاع الخاص التجآ إلى التشغيل الهش ليس حبا به أو رغبة في الاقتصاد في الأموال بل بسبب الظرف الاقتصادي الصعب الذي تمر به البلاد منذ أكثر من عشرية والذي خلف صعوبات كبيرة في انتداب العمال والموظفين. فالدولة لديها ديون خارجية وداخلية تقوم بتسديدها وأغلب مؤسسات القطاع الخاص تضررت من جائحة كورونا وبالكاد تقاوم من أجل البقاء في انتظار أن تتحسن الأوضاع».
إننا أمام معادلة صعبة، حسب الناشطة الحقوقية، هل يتم إعطاء الأولية لتحسين الوضع الاجتماعي في البلد وتسوية وضعية عمال منظومة التشغيل الهش، أم يتم التريث والتقشف في النفقات وإعطاء الأولوية لإنقاذ الاقتصاد الوطني والمؤسسات الخاصة التي تمر بصعوبات اقتصادية. تؤكد محدثتنا أنه لن يحل هذه المعضلة إلا تحسن الوضع الاقتصادي في البلاد وعودة آلة الإنتاج إلى وضعها الطبيعي، وفي الانتظار يبدو أن الدولة، حسب الشابي، قد حسمت أمرها في تسوية الوضعيات الاجتماعية وهو ما سيضعها أمام ضغط مستمر في توفير أجور ورواتب المنتدبين الجدد والقدامى على حد سواء.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية