تونس ـ «القدس العربي»: يتساءل كثير من المتابعين والمهتمين بالشأن التونسي عن مآل الأوضاع في البلاد بعد الانتخابات التشريعية التي شهدها مؤخرا على دورتين، والتي عرفت نسبة إقبال ضعيفة جدا. فهل أن هذه الانتخابات هي نهاية المطاف في عملية الخروج من الوضع الاستثنائي مثلما تم التصريح بذلك في وقت سابق، أم أن المرحلة ما زالت تتطلب المزيد من التركيز للمؤسسات التي لا يمكن تسيير الدولة بشكل طبيعي من دونها؟
إن ما هو أكيد هو أن الخروج من الوضع الاستثنائي يقتضي إجراء الانتخابات الجزئية لسد الشغور في الدوائر التي لم يترشح فيها أحد وأيضا تركيز الغرفة البرلمانية الثانية أي مجلس الأقاليم والجهات والتي نص عليها الدستور الجديد. كما أن الخروج من الوضع الاستثنائي يقتضي تركيز محكمة دستورية عليا ومجلس أعلى للقضاء يتشكلان فقط من القضاة حسب الدستور الجديد الذي لقي انتقادات واسعة وكأن هناك جهة قضائية دفعت بهذا الاتجاه وأقصت المحامين وأساتذة القانون.
أزمة ثقة
يرى الإعلامي والكاتب والمحلل السياسي التونسي كمال بن يونس في حديثه لـ«القدس العربي» بأن الحكومة نجحت في تنظيم انتخابات برلمانية في دورتين، في سياق تفعيلها لخريطة الطريق التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيد قبل أكثر من عام. لكن الرسائل السياسية والسوسيولوجية والأخلاقية التي وجهها الشعب بالمناسبة كانت حسب بن يونس خطيرة جدا، وتكرس تعمق الهوة بين كبار صناع القرار السياسي والاقتصادي في البلاد من جهة والطبقات الشعبية والوسطى من جهة ثانية.
ويضيف بن يونس قائلا: «لقد كانت نسب المشاركة ضعيفة جدا في الاستشارة الإلكترونية وفي الاستفتاء على الدستور الذي اقترحه الرئيس قيس سعيد العام الماضي. وكانت هذه المشاركة في الدور الأول للانتخابات 17 كانون الأول/ديسمبر ثم في الدور الثاني يوم 29 كانون الثاني/يناير الماضي أضعف مما توقع أنصار الرئيس وخصومه.
فقد أقرت السلطات ان نسب المشاركة كانت في حدود 11 في المئة فقط، بما يعني ان حوالي 90 في المئة قاطعوها أو امتنعوا عن التصويت. وهذا السلوك السياسي لغالبية المواطنين يتناقض جوهريا مع سلوكهم في انتخابات 2011 و 2014 و 2019 عندما راهنوا على التعددية والانتقال الديمقراطي وحضرت شعارات التغيير والإصلاح التي رفعها المتنافسون من ألوان مختلفة.
لقد كشفت الانتخابات الجديدة ارتفاع منسوب أزمة ثقة غالبية الشعب في صناديق الاقتراع و«اللعبة السياسية الديمقراطية». وبعد أكثر من عام َونصف من قرارات 25 تموز/يوليو 2021 التي أدت إلى حل البرلمان المنتخب في ظروف ديمقراطية في 2019 ازدادت معه معاناة المواطن اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. كما روجت النخب ووسائل الإعلام والمعارضة ومنظمات المجتمع المدني خطابا يتهم السلطات الحالية بالانقلاب على دستور 2014 التوافقي وعلى المؤسسات المنتخبة وبينها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والمجلس الأعلى المستقل للقضاء.
استمرار الفراغ
في هذا المناخ العام تعمقت معاناه العمال والعاطلين عن العمل والفقراء ورجال الأعمال والشباب، وتبين ان وعود الإصلاح وتحسين الأوضاع التي رفعتها السلطات بعد 25 تموز/يوليو تبخرت، وان الدولة العميقة التي أجهضت ثورة كانون الثاني/يناير 2011 ومخططات الإصلاح السابقة ازداد نفوذها خلال العام الماضي رغم مركزة السلطات التنفيذيّة والتشريعية والقضائية في قصر رئاسة الجمهورية بقرطاج. وفي ظل هذه التحديات خسر قصر قرطاج أغلب الأحزاب والأطراف السياسية التي دعمته في انتخابات 2019.
وفي المقابل أعلنت مجموعات «جديدة» ليس لها وزن شعبي انحيازها إليه، فكانت النتيجة توظيف هذه الأطراف لاسم الرئيس وعلاقاته خدمة لأجنداتها فأساءت إليه دون ان تكون قادرة على ان تقنع 90 في المئة من الناخبين بالمشاركة في الاقتراع والانخراط في مشروع الرئيس السياسي وفي خريطة الطريق التي تبناها ورفض التفاوض حولها مع المعارضة والمجتمع المدني. واليوم تعددت مبادرات السياسيين، بعضها يدعو إلى الحوار الوطني والتوافق وبعضها الآخر يطالب الرئيس بالاستقالة وتكليف حكومة جديدة بتسيير شؤون البلاد في المرحلة المقبلة وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة، ثم انتخابات برلمانية تعددية لا تقصي الأحزاب.
من جهة أخرى عمقت الأزمة الاقتصادية والانتخابات انتقادات القيادات السياسية والنقابية لها ولظروف تنظيمها، وخلقت أزمة ثقة بين السلطات والمركزية النقابية. وبعد إحالة معارضين على المحاكم المدنية والعسكرية وقع اعتقال مسؤول نقابي وتبادل الاتهامات بين المركزية النقابية العمالية وقصر قرطاج. في هذا المناخ العام يبدو ان الانتخابات لم تسفر عن ملء الفراغ السياسي الذي أحدثه حل برلمان 2019 وحكومة هشام المشيشي بل زادته تعقيدا.
مبادرة الاتحاد
يعتبر الناشط الحقوقي والسياسي التونسي صبري الثابت في حديثه لـ«القدس العربي» بأن الحديث عن الخروج من المرحلة الاستثنائية من قبل البعض هو سابق لأوانه خاصة وأن المنظومة السابقة بقيت عشر سنوات ولم تقم بتركيز محكمة دستورية عليا، ولولا النضج السياسي للبعض لحصلت كارثة بعد وفاة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي حيث كانت المحكمة الدستورية العليا، التي عطلوا تشكيلها نتيجة لتجاذبات سياسية، هي المخولة دستوريا للإعلان عن حالة الشغور في منصب الرئاسة. وعلى العموم فإن المرجح، حسب محدثنا، هو أن استحقاقات الخروج من الوضع الاستثنائي ستتواصل على مدار هذا العام 2023 وستحصل تجاذبات كثيرة في هذا المجال وانتقادات تتعلق بالتعيينات التي ستتواصل فيها المحاباة ومراعاة الولاءات على حساب الكفاءة.
ويضيف الثابتي قائلا: «ستزيد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الأمور تعقيدا ما لم يوافق صندوق النقد الدولي نهائيا على القرض الذي وعد بمنحه لتونس والذي سيساهم في فتح الباب لكسب ثقة مؤسسات مالية دولية للاقتداء بصندوق النقد الدولي وإقراض تونس. ويبدو أن موافقة الاتحاد العام التونسي للشغل على مطالب صندوق النقد الدولي شرط أساسي تضعه المؤسسة المالية الدولية للموافقة النهائية على القرض وبالتالي يبدو أنه لا مفر من الموافقة على مبادرة المنظمات الوطنية لحل الأزمة».
إن المعطيات المتوفرة تفيد بأن الرئيس قيس سعيد لن يقبل مبادرة المنظمات الوطنية، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، والمتعلقة بحل الأزمة التي تعيشها تونس. فالعلاقة تبدو متوترة ومتشنجة، حسب الثابتي، وذلك من خلال التصريحات التي يدلي بها الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي وينتقد فيها أداء رئيس الجمهورية ومن خلال اعتقال أحد النقابيين على خلفية إضراب عمال وموظفي شركة الطرقات السيارة.
المزيد من العزلة
ويضيف الثابتي قائلا: «إن رفض رئيس الجمهورية لهذه المبادرة سيؤدي إلى مزيد عزل المنظومة الحاكمة داخليا وخارجيا وهي العاجزة إلى حد الآن عن حشد الدعم الدولي لنيل قرض من صندوق النقد الدولي ولإيقاف تدهور التصنيف السيادي الإئتماني للبلد لدى بعض الوكالات المختصة. فالنتائج المسجلة في نسب الإقبال على الانتخابات التشريعية الأخيرة، والتي كان من المفروض أن تجعل رئيس الجمهورية يقوم ببعض المراجعات، لا يبدو أنها أثرت فيه ودفعته إلى الانفتاح على أطياف واسعة من مكونات المشهد السياسي التونسي وخصوصا المنظمات الوطنية.
إن كل المؤشرات تؤكد على أن نتائج الانتخابات الأخيرة لن يكون لها أي تأثير على أداء الرئيس قيس سعيد وهو الذي صرح إثرها بأن سبب العزوف يعود إلى عدم اهتمام التونسيين بالبرلمان وبأنه أكثر شعبية من معارضيه. وبالتالي فمن المتوقع أن يدفع الرئيس باتجاه إجراء الانتخابات الجزئية في دوائر الخارج وتشكيل مجلس الجهات والأقاليم وتركيز المحكمة الدستورية العليا والمجلس الأعلى للقضاء.
ومن المؤكد أن الأوضاع المعيشية للتونسيين لن تتحسن بين عشية وضحاها، وهي التي بدأت في التدهور منذ سنوات، بل سيزداد الأمر سوءا وستزداد الاحتجاجات الاجتماعية وسيضطر النظام إلى قمعها وإلى ملاحقة النقابيين. وما على الطبقة السياسية إلا أن تستعد للانتخابات الرئاسية المقبلة لأن إسقاط الرئيس من خلال الشارع مثلما تدعو إلى ذلك بعض قوى المعارضة يعتبر مستحيلا بدون تدخل قوى خارجية ومتعاونين من داخل النظام مثلما حصل مع بن علي».
مصير غامض
من جهتها ترى الناشطة الحقوقية آمنة الشابي في حديثها لـ«القدس العربي» أن مصير تونس غامض في ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه البلد منذ أكثر من عشرية نتيجة للسياسات الخاطئة والاستهانة بمصالح البلد. فصندوق النقد الدولي يلتزم الصمت، حسب الشابي، بشأن القرض الذي تمت الموافقة عليه على مستوى الخبراء وهو ما يعني حسب البعض بأن الدول الفاعلة والمؤثرة في هذه المؤسسة المالية الدولية الهامة غير راضية على أداء الرئيس قيس سعيد.
وتضيف قائلة: «بالمقابل فإن الرئيس سعيد على قناعة تامة بأنه يسير على الطريق الصحيح وأنه لم يخطئ بتاتا وبأن سبب العزوف عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع هو الصورة السلبية التي بات يحملها التونسيون عن البرلمان بعد تجربة البرلمان السابق. كما أن الرئيس على ما يبدو لديه قناعة بأنه الأكثر شعبية في الداخل مقابل نجاح المعارضة في تسويق رؤيتها لما حصل ويحصل في تونس للخارج وخصوصا للولايات المتحدة الأمريكية البلد المؤثر في قرارات صندوق النقد الدولي.
وبالتالي فإن المواطن التونسي هو من يدفع الثمن في ظل شبه حصار خارجي، وإصرار من المعارضة على الاستقواء بهذا الخارج وحشده لاستهداف الداخل، وإصرار من الرئيس على المضي قدما في تركيز المؤسسات بصورة منفردة ووفقا لما يراه هو صحيحا بدون الاستماع إلى النصح. ويبدو أن تركيز المؤسسات سيتواصل حتى وإن افتقد بعضها إلى الشرعية أو كانت شرعيته منقوصة ولن يتعامل الرئيس مع مبادرة المنظمات الوطنية بالجدية اللازمة أو ربما لن يعيرها أي اهتمام وقد يطلب إيداعها في مكتب ضبط القصر مثلما فعل سابقا مع اقتراحات الأحزاب السياسية لرئاسة الحكومة.
ويتوقع أن يشهد البلد تصاعدا في وتيرة الاحتجاجات في ظل هذا الغلاء الفاحش للمعيشة، المبالغ فيه كثيرا وإلى حد لا يطاق، والذي قابلته الحكومة بقانون مالية زاد في خنق كثير من الفئات وذلك عوض البحث عن موارد أخرى للميزانية خارج إطار الجباية والتداين الخارجي. وكأن العقل التونسي المبدع على الدوام عبر التاريخ بات قاصرا وعاجزا عن ايجاد الحلول لبلد تعداد سكانه لا يتعدى الإثني عشر مليون ساكن ولديه من الموارد ما يكفي هذا العدد المحدود من السكان والذي كان خيار دولة الاستقلال التي انتهجت سياسة تحديد النسل».
مواصلة البرنامج
ترى الصحافية التونسية منى بن قمرة أن الرئيس قيس سعيد يمضي في تنفيذ برنامجه الذي لم يعلن عنه في حملته الانتخابية غير عابئ بالانتقادات التي تطاله من معارضيه وحتى من بعض المحسوبين عليه. كما لا يعير أي اهتمام، كما تقول لـ«القدس العربي» لانتقادات الخارج وهو الذي سبق له أن انتقد حتى الولايات المتحدة الأمريكية على تدخلها في الشأن التونسي وكذلك وكالات التصنيف التي تمنح التراقيم السيادية الإئتمانية، وسخر منها وطرد لجنة البندقية الاستشارية حول الانتخابات.
وتصيف محدثتنا قائلة: «يبدو أن شخصية الرئيس العنيدة ستجعله يمضي قدما في تنفيذ أجندته السياسية غير عابئ بنسب الإقبال الضعيفة على صناديق الاقتراع ولا بالشعبية التي بدأت في التآكل ولا بمماطلة صندوق النقد الدولي في منح تونس القرض الموعود به ولا بالتخفيض في التصنيف السيادي الإئتماني لتونس من بعض الوكالات. كما لا يبدو أنه يهتم كثيرا لتدهور مستوى المعيشة شأنه شأن من حكموا خلال العشرية السابقة وأوصلوا البلد إلى حافة الإفلاس وإلى وضع مزر لم يعرفه على مدى تاريخه الحديث على كافة المستويات وبدون استثناء.
وبالتالي فإن المرجح هو أن يتم استكمال الانتخابات الجزئية في دوائر الخارج بدون نسيان الغرفة الثانية للبرلمان وكذلك المحكمة الدستورية العليا والمجلس الأعلى للقضاء وسيبدأ في إرسال مشاريع القوانين إلى البرلمان وسيقوم بتطبيق الدستور الجديد. ولن يقع التعامل مع مبادرة الاتحاد بالجدية المطلوبة وقد يجعل ذلك الاتحاد يعارض اتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي ويتم تعطيل القرض أو رفضه من قبل هذه الجهة المالية الدولية. وسيخلق ذلك جوا مضطربا في البلاد تبدو تونس في غنى عنه».