تونس… هذا القدر الذي يغلي!

حجم الخط
18

تونس اليوم عبارة عن قِدْرٍ أحكم غطاؤه وهو يغلي فوق نار تزداد اشتعالا. أسوأ ما تعيشه أي دولة هو أن تكون هذا القِدر الذي لا أحد تقدّم لإطفاء النار الملتهبة تحته، ولا حتى لتحريك غطائه قليلا لعلّ خروج بعض البخار يؤجّل الانفجار المحتوم.
ما يدفع إلى رسم صورة بهذه القتامة مجموعة عناصر تفور حاليا بلا هوادة:
أولا: رئيس دولة لا يبالي بأي شيء ولا يستمع لأي أحد، لا همّ له إلا تغيير القوانين على مقاسه من أجل «تونس جديدة» لا توجد إلا في خياله. لا يتحدث إلا بلغة تقسيم البلاد والعباد بين طالحين وصالحين لا نعرف أحدا من بين هؤلاء أو أولئك.
هذا الرئيس لا يعرف متى وكيف يتحدّث إلى أبناء شعبه، ولا يبدو معنيا حقا بما يعانونه في حياتهم اليومية، وإن تحدث فهو لا يفعل إلا بلهجة متوتّرة مبهمة لا تقدم ولا تأخر، ناهيك أن تبعث بأي رسالة طمأنة أو تهدئة، مع حماسة لمشاريع ملتبسة من نوع «الشركات الأهلية» غريبة الأطوار.
ثانيا: حكومة لا حول لها ولا قوة، برئيسة باهتة لم نرها يوما تتحدث إلى الشعب بعد أن قبلت على نفسها أن تكتفي في كل مرة بالجلوس أمام مكتب الرئيس تهز برأسها ليس إلا !! أما بقية الوزراء فشخصيات نكرة في الغالب بلا رؤية ولا قدرة على التسيير أو الابتكار، يعودون في كل كبيرة وصغيرة إلى الرئيس دون أي شعور بالإحراج أو بالإهانة الشخصية التي رضوا بها لأنفسهم، وزراء إذا تحدثوا يثيرون من السخط أكثر مما لو ظلوا ساكتين. ربما لم تعرف تونس في كامل تاريخها الحديث حكومة بمثل هذا الهزال الفاقع.

تونس اليوم تعيش على مساعدات عاجلة عبر قروض خارجية محدودة حتى لا يموت الناس جوعا ليس أكثر، آخرها ما أعلنه صندوق النقد الدولي، في وقت يتضح فيه تماما أنه لم يعد للدولة من سيولة مالية تغطي توريد ضروريات ملحّة

ثالثا: معارضة وإن استطاعت أن توسّع قدرتها على التعبئة، كما بدا ذلك في مظاهرة الأحد الماضي، إلا أنها ما زالت غير قادرة على كسب ثقة أوسع قطاع ممكن من الناس، ليس فقط لأنها ارتبطت في أذهان هؤلاء برواسب سلبية مختلفة في السنوات الماضية، حقيقية أو مفتعلة، بل أيضا لأنها بدت عاجزة على الالتقاء العريض بين مكوّناتها المختلفة على حد أدنى مرحلي لعودة الديمقراطية ودستور 2014، يقدّم إلى الناس بشكل واضح ومقنع، فضلا عن الفشل في تجديد قيادييها وخطابها، ثم إن القوتين الأبرز الآن في هذه المعارضة يعاني كل منهما عيبا قاتلا: حركة «النهضة» منسوب الغضب الشعبي منها كبير، وحزب «الدستوري الحر» مخيف في خطابه الإقصائي الشعبوي، وكلاهما لا يملك جرأة نقد إرثه وتاريخه.
رابعا، شعب غاضب يئن تحت وطأة غلاء فاحش لا يُطاق أفقر الطبقة الوسطى تقريبا وسحق من كان فقيرا معدما. كما فُقدت من الأسواق مواد ما كان يظن التونسي أن تفقد يوما مثل الوقود والخبز والسكر والقهوة والزيت وحتى الماء المعدني وغير ذلك. تونس اليوم تعيش على مساعدات عاجلة عبر قروض خارجية محدودة حتى لا يموت الناس جوعا ليس أكثر، آخرها ما أعلنه صندوق النقد الدولي، في وقت يتضح فيه تماما أنه لم يعد للدولة من سيولة مالية تغطي توريد ضروريات ملحّة من غذاء ودواء ووقود. أوضاع دفعت بمئات الناس إلى التظاهر في كثير من المناطق والأحياء الشعبية من العاصمة بعد أن ضاقوا ذرعا بالتدهور المستمر لمعيشتهم، والتعامل الأمني معهم، وهم من ظنوا أن الفرج قد يأتي من رئيس «نصير الفقراء» و«محارب للفساد». مناخ اجتماعي خانق دفع بالآلاف إلى الهجرة، ومنهم من ركب قوارب موت يرتفع ضحاياها كل يوم أمام فشل مخيف لدولة اهتزت أركانها ووَهَن عظمها.
خامسا، رأي عام ساخط صارت مواقع التواصل الاجتماعي متنفسه الأساسي والوحيد غير عابئ بمرسوم رئاسي صدر مؤخرا لتضييق الخناق عليه. وفي وقت تقهقرت فيه كثيرا صورة تونس في المحافل والإعلام الدوليين، عاد الإعلام العمومي، وأغلب الخاص، إلى عاداته القديمة عقود الاستبداد، اندفع الناس نحو «فيسبوك» يصبّون فيه جام غضبهم، ومن بينهم من سبق أن توسّم خيرا في الرئيس فجاءت خيبته موجعة جدا.
هل هذه أجواء يتوجه فيها الناس إلى صناديق الاقتراع في ديسمبر/ كانون الأول لانتخاب برلمان جديد كرتوني لا يحل ولا يربط؟! طبعا لا، لكن المؤلم في مشهد هذا القِدر الموشك على الانفجار، هو أن لا أحد تقدّم محاولا تنفيسه إذا تعذّر إنزاله من فوق النار. حتى ذلك الرباعي الذي حصل على جائزة «نوبل» للسلام عام 2014، لنزعه فتيلا سابقا، أقعدته حسابات انتهازية عن أي مبادرة.
في الأثناء، تتابع الأطراف الدولية الفاعلة ما يجري، والذي لا يحظى سوى بإعجاب جارٍ قريب وآخر بعيد، بكثير من القلق، مع تساؤلات حائرة تتعلق بالمؤسستين العسكرية والأمنية. يشترك في ذلك المؤسسات المالية الدولية والولايات المتحدة وأوروبا، وخاصة فرنسا التي تعيد مرة أخرى خطأها القاتل في رعايتها الدائمة للاستبداد، مع أن إعلامها لم يرحم قيس سعيّد أبدا.

كاتب وإعلامي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رمضان:

    إننا نموت ونحن أحياء… ما أقسى أن تُخطف أحلامك من أناس ظننت يوما أنهم يتقاسمونها معك… لا ترجو من القِدْر إلا أن يغلي ويفور حتى إذا ما أنسكب ماؤه فلن يحرق إلا موقدوه.

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    حياك الله أستاذ كريشان وحيا الله الجميع
    تونس تنتظر حلول منكم أهل الحل والعقد , وليس التأزيم والنقد !
    أظن بأن سعيد ينفذ توجيهات العسكر ببلاده , وأجندات خارجية !!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول عبدالله:

    الفكر العروبي الثوري الناصري سم قاتل لايصلح ولن يصلح أبدا في البيئة المغاربية التي لها هويتها وخصوصيتها.

  4. يقول سامح //الأردن:

    *للأسف (تونس) على صفيح ساخن جدا
    وكان الله في الشعب التونسي المنكوب.
    حسبنا الله ونعم الوكيل في كل فاسد وظالم.

  5. يقول عبدو:

    تغيير الرئيس ضرورة حتمية فاستاد القانون الدستوري لا يمكن أن يحكم دولة

  6. يقول الكروي داود النرويج:

    لا حول ولا قوة الا بالله

  7. يقول احمد:

    قيس سعيد يسير على خطى السيسى الذى كبل مصر بأكثر من 150 مليار دولار كديون خارجية أغلبها لصندوق النقد الدولى وأ وصل الشعب إلى حالة يرثى لها وحيث الإنفجار الشعبى قادم لا محالة ؛ أتمنى ألا يصير نفس السيناريو فى تونس و ولابد من التخلص من هذا الديكتاتور .

    1. يقول كريم:

      و كذلك نفس السيناريو في المغرب.

    2. يقول عبد الرحيم المغربي .:

      أكبر دولة مدينة في العالم هي الولايات المتحدة…واقوى إقتصاد فوق الكرة الأرضية هو الإقتصاد الأمريكي…..وهنا لابد أن نفرق بين الدين كسيولة استثمارية والية تحفيزية…لانعاش حركية الأبناك والحركية الفعلية للشركات…وتحويل جزء من الأرباح الى الرأسمال والفوائد المطلوب استرجاعها…وبين الدين المتراكم ذو الطبيعة الاستهلاكية الذي يأتي على رأس المال ويضخم نسب الفوائد…كما هو الشأن بالنسبة إلى من يطبع النقود بدون ضمانة…ويعلق الرصيد الحقيقي على الاحتمال…فتكون النتيجة ندرة السلع وتفاقم ظاهرة الطوابير….

  8. يقول مواطن:

    تونس ليس لها ثروات طبيعية من اجل الانقاد اما الرئيس الدستوري لا يقدر ان يقدم او ياخر في هذه الظروف الصعبة تونس تحتاج الى رئيس محنك ومنطقي وله علاقات مع دول شقيقة لتمر الى بر الامان انا اتباع النظام العسكري الجزائري استنجد غريق لغريق اني اخاف على تونس مثل ليبيا والتي بترواتها لم تستطع الخروج من المستنقع الله يحفظ

  9. يقول عبد الكريم البيضاوي:

    ياأخي , المشكلة متشعبة وجذورها عميقة, أولها – برأيي – هل هناك قدرة للشعب والأحزاب الممثلة له بالترفع عن الذات ومحاولة إيجاد أرضية سياسية يقف عليها الجميع ولو مع هذا الرئيس الذي اغتصب الحكم؟.
    الجميع متفق أن ماقام به انقلاب على نظام حكم ديمقراطي – ولو على علاته – ليس له أي تبرير, لكنه ربما كان لبنة أولى لتثبيت نظام انساني حر ومحاولة ترسيخه في أذهان الناس بالتدرج, الذي حصل تحت قبة البرلمان يعلمه الجميع , غالبا حزازات حزبية وشخصية كدرت جو عمل هذا البرلمان.

  10. يقول عبد الكريم البيضاوي:

    تتمة :

    انقلاب سعيد غير مقبول ومرفوض جملة وتفصيلا , أخشى ما أخشاه أن النظام الجديد سيغرس جذوره بين المواطنين أعمق وأعمق خصوصا في المناطق الهشة والفقيرة فقط بتوزيع شيء من المعونات العينية يحصل على مؤيدين, فتعود تونس لحالها السابق قمع الحريات السياسية والاجتماعية والأحكام السجنية الخيالية كباقي أخواتها .

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية