تونس والمأزق الدستوري

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس-»القدس العربي»:  ما يزال الجدل محتدما في تونس بشأن الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد والمتمثلة أساسا في تجميد نشاط البرلمان لمدة شهر، ورفع الحصانة عن النواب، وإعفاء رئيس الحكومة من مهامه، مع إشراف سعيد شخصياً على النيابة العمومية في عملية تتبعها لملفات الفساد. فهناك من دعم هذه القرارات واعتبرها تصحيحا لمسار ديمقراطي وليد حاد عن أهدافه في السنوات الأخيرة، فيما اعتبرها البعض الآخر انقلابا من قبل ساكن قرطاج على الشرعية والتفافا منه على الدستور الجديد الذي أقسم هو نفسه على احترامه عند تسلمه لمهامه.

وانتقل هذا الجدل على ما يبدو إلى خارج الديار وتحديدا إلى أصدقاء تونس الإقليميين والدوليين، الذين لم يستوعب أغلبهم ما حصل، وبقي الغموض هو السائد بالنسبة إليهم فيما يتعلق بطبيعة هذه الإجراءات، وتجلى ذلك في مواقفهم ومواقف المنظمات الدولية والإقليمية. وتتميز ردود أفعالهم في أغلبها بالضبابية وعدم الوضوح نتيجة لحالة الشك والريبة حول طبيعة ما حصل، فلم يجزموا بأي من وجهتي النظر المتبناة من الفريقين، وتأجل الحسم على ما يبدو بالنسبة إليهم بحسب التطورات التي سيشهدها هذا الملف خلال هذا الشهر الحاسم والمصيري للتونسيين ولأصدقائهم.

خلل إجرائي

وينص الفصل 80 من الدستور التونسي الجديد والذي استند إليه سعيد في قراراته تلك، على أن رئيس الجمهورية بإمكانه أن يتخذ تدابير تحتمها الحالة الاستثنائية المتمثلة في وجود خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها ما يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة. ويتم ذلك، حسب الفصل الدستوري المذكور، بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن تلك التدابير في بيان موجه إلى الشعب.
ويستند بالأساس من يعتبرون أن ما حصل هو انقلاب، على أن سعيد لم يستشر صاحب القصبة (رئيس الحكومة) والمؤتمن على قصر باردو (رئيس مجلس النواب) فيما يصر رئيس الجمهورية على أنه أعلم الغنوشي والمشيشي وبالتالي فالإجراءات صحيحة بالنسبة إليه. كما يستند أصحاب نظرية الانقلاب على أن اللجوء إلى الفصل 80 يقتضي وجود المحكمة الدستورية العليا التي يجب إعلامها بالأمر، في حين أن المحكمة لم يقع تركيزها بعد بالنظر إلى الخلافات التي نشأت حول ثلث الأعضاء الذي يختاره مجلس النواب.
والحقيقة أن سعيد  كان قد رفض التوقيع على مشروع قانون التعديلات المتعلقة بالنحكمة الدستورية منذ أشهر قليلة، مثلما رفض أيضا أن يؤدي الوزراء الذين تمت تسميتهم مكان الوزراء الموالين له اليمين أمامه في قصر قرطاج. وبالتالي وجدت البلاد نفسها في مأزق حقيقي في غياب هذه المحكمة التي تعتبر حجر الأساس في هذا النظام السياسي، باعتبارها ليست فقط الجهة التي تستشار من الرئيس والبرلمان عند اتخاذ قرارات هامة، بل هي أيضا الجهة الوحيدة المخولة لتأويل نصوص الدستور عند حصول خلاف حولها شبيه بالخلاف الحاصل اليوم.

تأويلات متعددة

وبالتالي تبقى كل التأويلات في غياب المحكمة الدستورية العليا، بما في ذلك التأويل الذي استند عليه قيس سعيد في اتخاذ قراراته، مجرد اجتهادات لا غير وتحتمل الخطأ والصواب، ولا يمكن الجزم بصحتها أو بخطئها. وللإشارة فقد سبق وأن تم تجاوز مسألة غياب المحكمة الدستورية العليا إثر وفاة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي حيث تم تنصيب رئيس مجلس النواب محمد الناصر رئيسا للجمهورية خلفا للباجي بدون العودة إلى المحكمة الدستورية غير المُشكلة، وحظي هذا الإجراء بالقبول من الأطراف السياسية.
ويرى البعض أنه يجب على سعيد أن يصحح الإجراءات ويتجاوز الاخلالات التي قام بها عند اتخاذ قراراته، ومن ذلك العودة إلى استشارة رئيس البرلمان ورئيس الحكومة، وإبقاء مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة عملا بالفقرة الثانية من الفصل 80 من الدستور، أي يقوم برفع التجميد عنه. مع الحرص على عدم إقدامه على حل مجلس نواب الشعب، وعدم تقديمه للائحة لوم ضد الحكومة طيلة هذه الفترة لأن ذلك يتعارض قطعيا مع الفصل 80 من الدستور المشار إليه، باعتبار أن الهدف من هذه التدابير بالأساس هو تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال وليس الانتقام والصراع بين الفرقاء السياسيين.
ويقضي الفصل 80 من الدستور أيضا أنه وبعد «مضيّ ثلاثين يوما على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه. وتصرح المحكمة بقرارها ذاك علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوما، ويُنهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها، ويوجه رئيس الجمهورية بيانا في ذلك إلى الشعب».

حتمية التوافق

ولعل السؤال الذي يطرح مرة أخرى ما هو الحل للخروج من هذه الأزمة في ظل غياب المحكمة الدستورية العليا التي سيتوجه إليها رئيس البرلمان أو ثلاثون من أعضائه للبت في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمها؟ هل سيعلن رئيس البرلمان من تلقاء نفسه عن نهاية التدابير بعد أن يقدر من تلقاء نفسه أيضا أن أسبابها قد زالت استنادا إلى سابقتي تجاوز المحكمة الدستورية العليا في عملية تنصيب محمد الناصر رئيسا مؤقتا للجمهورية خلفا للراحل الباجي قايد السبسي والقرارات الأخيرة التي اتخذها سعيد؟ وماذا لو تم ذلك ورفض رئيس الجمهورية التوجه إلى الشعب ببيان لإعلامه بذلك وهو شرط أساسي لصحة الإجراء؟
يبدو البلد في مأزق دستوري حقيقي بعد الذي حصل ولا يمكن الخروج منه على ما يبدو إلا بتوافقات بين الأطراف المشكلة للمشهد السياسي. لكن المنتفضين في أغلب المدن التونسية من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والصحية المزرية قد لا يقبلون بعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل يوم 25 تموز/يوليو. فالأوضاع لم تعد تحتمل مسكنات وهناك غضب شعبي واحتقان كبيرين، حتى أن البعض اعتقد أن ما اتخذه سعيد من إجراءات كان هدفه احتواء الشارع وامتصاص غضبه حتى لا يحصل ما لا يحمد عقباه.
ولعل الحقيقة المرة التي يكابر أغلب السياسيين ولا يرغبون في الاعتراف بها أنهم لا يسيطرون على الشارع، وعلى الأغلبية الصامتة التي يبدو أنها تحركت من أجل لقمة عيشها بعد أن سدّت كل الأبواب أمامها. فجماهير الأحزاب السياسية مجتمعة لا يتعدى تعدادها الثلاثة ملايين بالإستناد إلى نتائج الانتخابات الأخيرة لسنة 2019 فيما باقي الشعب وقدره تسعة ملايين، فإن سواده الأعظم إما لم يسجل أو أنه لم يعد واثقا بالعملية السياسية برمتها وكره الانتخابات ولم يعد واثقا أنها قادرة على التغيير، وهو ما حذرت منه أطراف عديدة لكن الأحزاب لم تعر يومها اهتماما لهذا الأمر وانصرفت منتشية لاقتسام كعكة الحكم.

سيناريوهات

وتبدو تونس اليوم أمام مفترق طرق حيث ان هناك سيناريوهات عديدة متوقعة في المرحلة المقبلة. ويؤكد المحلل السياسي والصحافي نزار مقني لـ»القدس العربي» أن السيناريو الأول هو ان تتجاوز تونس  فترة الاستثناءات الظرفية بأن تكون هناك إصلاحات سياسية واسعة تخرج منها البلاد إلى تغيير النظام السياسي والاستفتاء حوله، ثم الذهاب نحو مرحلة سياسية جديدة يمكن تسميتها بـ «الجمهورية الثالثة». أما السيناريو الثاني – حسب مقني- فهو الذهاب نحو ديكتاتورية جديدة متأصلة خاصة أن رئيس الجمهورية يمسك بيده بالسلطات الثلاث. ومن هذا المنطلق – يعتبر محدثنا- بأنه يجب على المجتمع المدني في تونس ان يمارس دوره في الرقابة على رئيس الجمهورية وعلى الفعل السياسي من جهة.
وتتطلب المرحلة المقبلة، بحسب محدثنا، دراسة الأهداف الضرورية لإعادة الأمل للشباب التونسي من خلال العودة إلى الإنتاج لتحريك العجلة الاقتصادية وتحسين المؤشرات الاقتصادية، مما يجعل الاقتصاد يشهد نموا على الأقل في الأشهر القليلة المقبلة وهذا يستدعي تضافر الجهود خاصة ان الوضع الاقتصادي يشهد تدهورا كبيرا لا سابق له كان له تأثيره على المؤشرات الاجتماعية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية