ربما كان من المنطقي تماماً أن ينتهي في تونس ما بدأ بها وفيها، ولأن شيئاً ما عميقاً وتغيراً محورياً في التاريخ لا يحدث أو يقع اعتباطاً، بل لا بد له من مبرر، فمن الطبيعي أن تكتمل الدائرة في تونس، إذ على الرغم من حداثتها وجودة تعليمها ومن ثم تطورها النسبي ومستوى المعيشة الأفضل (المفترض أو المزعوم ) فيها إذ ما قيست وقورنت بدولٍ عربيةٍ أخرى على رأسها مصر، فإنها بذا تؤكد أنها لم تزل تنتمي إلى هذه المنطقة في الصميم، بكل استعصاءاتها المزمنة، إلى هذا المستنقع، بكل إشكالياته العالقة وعلى رأسها التنمية وقضايا تداول السلطة والمشاركة الشعبية وقضايا الهوية بعلاقاتها المتشعبة والمتداخلة مع الفكرة عن الذات والآخر وطبيعة السلطة الحالية وتلك المرجوة أو المنشودة.
استيقظنا يوم الأحد الماضي على إقالة الرئيس التونسي قيس سعيد لرئيس الوزراء وتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب. وفي الظاهر جاء هذا القرار عقب موجة احتجاجاتٍ تسبب فيها ورسبها سوء الأداء الاقتصادي السابق على جائحة كورونا والتي لم تزدها بطبيعة الحال إلا سوءاً وارتفاع عدد الوفيات من جراء الفيروس اللعين.
لست هنا بصدد تحليل الأزمة التونسية في حد ذاتها، فالبداية واضحة، ولم تزل الأيام لتسفر عن الكثير وإن كانت كل البوادر تشير إلى تقويض تلك التجربة الديمقراطية التي لم تزل وليدة في عمر الشعوب، ولكن ما استوقفني وأحزنني هو رد فعل السواد الأعظم ممن يُطلق عليهم «النُخَب» (ولا أعلم حقيقةً من «َخَّبَهُم «) من غير الإسلاميين، أي الليبراليون و»اليساريون» بأطيافهم إلا قلة لعلها تشعر بالوحدة من فرط قلتها في البلدان العربية وخاصةً في مصر.
لقد استقبلت هذه الـ «نخب» العلمانية القرار بالترحيب والتهليل، وعلى الرغم من التحفظ اللفظي للبعض الأكثر حصافةً والأقل انسياقاً للحماسة ممن يحسبون جيداً وينظرون لبعيد على الرغم من انحيازاتهم، نجد البقية والأغلبية تطالب بالمضي في القمع حتى مداه الأبعد والأعمق، وفي عداوتهم للإسلاميين التي تشبه نزاعات الضرائر، ليس لديهم أي مانعٍ من التضحية بكل المكتسبات السياسية.
مرةً أخرى يبرهن ذلك الموقف، كما برهنت كل المواقف والاختبارات السابقة، على حقيقةٍ أراها أساسية ومحورية: أن البورجوازية العربية رثةٌ وضعيفة، مهزوزةٌ وشديدة البؤس تسكنها الهزيمة والبلبلة الفكرية، أنها هي المشكلة وليست مجرد نتيجتها أو عرضا لها، ولعل ذلك هو عامل الوحدة العربية الأهم.
في تبرير في ما تشير كل الدلائل من الاستئثار بالسلطات ودعم الجيش وإعلان حظر التجول إلى كونه انقلاباً يدفع داعموه بحججٍ تكشف تهاوي وأزمة العقل العربي والبورجوازية العربية تحديداً.
الحل لا يكمن سوى في المزيد من الحريات الديمقراطية لا القفز إلى الأمام بالانقلابات
أولاً ولعله الأهم، هناك الجانب النظري أو صراع الهويات بين ما يطلق عليها «الأصالة» بما تعنيه من الميراث العربي- الإسلامي والحداثة الأوروبية، ذلك الصراع الذي لم يحسم مذ اصطدمنا بالغرب محتلاً متحدياً، وهو صراع أفكارٍ وأمزجةٍ وأهواء في حقيقة الأمر، ومع ما في التعميم من خلل، إلا أننا نرى نمطاً متكرراً في التجربة تلو الأخرى حيث تلجأ (أو تقبل) النخب العلمانية إلى تدخل العسكر منقلبين كلما وصل الإسلاميون إلى السلطة، أي يلجؤون إلى العصا الغليظة في مواجهة صراعٍ سياسي. هم على استعداد للتضحية بالحريات السياسية في سبيل الحفاظ على بعض مظاهر التغريب والحريات الشخصية (غير المهددة في حقيقة الأمر في أغلب الأحيان) ولعل المدهش هو استدعاء نموذج الديمقراطية التي أتت بهتلر في ألمانيا في ما أعتبره خلطاً محزناً والتباساً في الفهم أحياناً وخفة يد و»نصباً» في أحيان أخرى لا يفسره سوى إغفال أو عدم فهم طبيعة الصراع الطبقي وانعكاساته في ألمانيا.
بإيجازٍ شديد، لقد جاء هتلر بصفقةٍ مع رأس المال الألماني الكبير والبورجوازية الألمانية لضبط الشارع وضرب الشيوعيين والسيطرة على التضخم والسماح، من ثم، لهذه الشركات الضخمة بتحقيق هامش ربحٍ أضخم. لقد ضحت البورجوازية الألمانية ببعض حقوقها السياسية (أو كثير لا يهم فهذا خيارها) لتحقيق مكاسب اقتصادية وللحفاظ على سيطرتها إزاء ما ارتأته تضخماً وانفلاتاً ومن ثم خطراً شيوعياً يهدد وجودها برمته؛ بالتالي فإن رهان البورجوازية العربية والنخب العلمانية على انقلابات العسكر في بلداننا (السيسي أبرز مثال) هي الموازي والمساوي لانتخاب هتلر وليس العكس كما يزعمون. إنهم يضحون بالحقوق السياسية من أجل مكاسب اقتصادية مرجوة أو نمط حياةٍ يودون الحفاظ عليه أو خوفاً من بعبع الفوضى و»القمع الإسلامي» و»الأسلمة» وفي ذلك عمى لا يصدق، إذ أن العسكر ما بقوا (كالسيسي مثلاً) لم يأتوا بالحريات أبداً بل بقمعٍ قل أن تجد له نظيراً، فالمسألة ليست مسألة حريات من عدمها إذن، ناهيك من كونهم لا يقلون فشلاً البتة عن قوى الإسلام السياسي.
من ناحية أخرى يتم تجاهل (أو التعالي على) كون الإسلاميون حركات قاعدية تمثل ثقافة ومزاج قطاعاتٍ شعبية كبيرة أو على الأقل الذين انتخبوهم، وهم ليسوا مجرد ردة فعلٍ على الهزيمة كما قيل في الشأن المصري عقب 1967 فتونس لم تُمنَ برجةٍ مماثلة لذا فقد تعتبر أنجح وأكثر استقراراً زمن بورقيبة ومع ذلك نمت فيها حركةٌ إسلامية. خلاصة القول في نظري هي أن الإسلام السياسي هو وسيلة تعبيرٍ مستوحاة من الثقافة المحلية تستخدم مفرداتها ولغتها في شأن مطالب فئاتٍ واسعة، ولا بد من التعامل مع ذلك بواقعية واحترام.
أما حين نلتفت لتناول الناحية العملية، فإن كم الالتباس يثير من السخرية قدر ما يثير من الحيرة. فاللافت منذ البداية أن كثيراً من الانقلابين يتشابهون ويتقاربون بل يكادون أن يتطابقوا من حيث تكوينهم الشخصي ومزاجهم (العداء للحرية الجنسية والمثليين واليسار الخ) من قادة التيارات الإسلامية، بل وقد يقعون على يمينهم في ما يخص الحريات السياسية وتدخل الدولة في الاقتصاد، وقل أن تجد بينهم من لم يتحالف مع أو يدعم فصيلاً إسلامياً في مرحلة ما وربما نفس اولئك الذين ينتهون بإزاحتهم وإقصائهم، كما هو معلوم تماماً كم استثمروا فيهم لمواجهة وتحجيم اليسار فكثيراً ما قبلوا لفتراتٍ طويلة نوعاً من تقاسم الهيمنة المجتمعية عن طيب خاطرٍ معهم أو نوعاً من التعايش القلق الذي ما يلبث أن يؤدي إلى صدام حين يختلفون على الحصص أو يزيد نهم الإسلاميين للمزيد.
أما الذين يسخرون من شراء الأصوات بزجاجات زيت الطهي والدقيق فإن ذلك أيضاً تجاوز مخل وأعجب العجب، إذ أن زجاجة الزيت تلك تساوي خدمةً عينيةً مباشرة ونوعاً من الوعد بخدماتٍ مقابل غياب أي خدمات من الحكومات التي أدارت ظهورها تماماً للمواطنين، فالعكس تماماً هو المنطقي، وعلى من يريد أن يُنتخب أن ينزل للناس فيحاول أن يقنعهم موزعاً الزجاجات وواعداً بالمزيد منها متى فاز، فتلك الزجاجة السحرية التي كثر الحديث عنها والدقيق والسكر والأرز تساوي عملياً الحياة وكل دعاوى التحديث والفرنجة التي قد تروق لنا وتطربنا لا تساوي لدى الفقراء والمعدمين شيئاً على الإطلاق.
ما شهدته تونس ومن قبلها مصر ليس بدعةً، فما أكثر الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالدول وما أوفر احتدام الصراعات السياسية والمواجهات، لكن الحل لهذه هو المواجهات في المجال العام ومنها الشارع والانتخابات المبكرة وليس الانقلابات التي لن تؤدي سوى إلى دائرةٍ مفرغة من العنف والإقصاء والاستبداد ومن ثم كسب قوى الإسلام السياسي المزيد من الشعبية جراء ما يلاقونه عادةً (أو بصورة دائمةٍ في الحقيقة) من القمع والسجن والتعذيب.
لقد كان النظام المصري سبّاقاً إلى الانقلاب ولكنه مهد له جيداً عن طريق الأزمات المفتعلة في السلع الأساسية والوقود وأدار الإعداد بحرفية، أما في تونس فقد آثرت البورجوازية والدولة العميقة الانقلاب الأنيق، السريع، يقوده رجل قانون ألمع وأكثر لباقةً وفصاحةً وذكاءً من الجنرال المصري الذي لا يعرف كيف يصيغ جملةً مفيدة.
لست مراهنا على حسن أداء القوى الإسلامية بنفس المقدار الذي لا أنتظر فيه خيراً من الضباط، إلا أن الحل لا يكمن سوى في المزيد من الحريات الديمقراطية لا القفز إلى الأمام بالانقلابات.
لم يزل الوقت مبكراً في عمر وثبة قيس سعيّد تلك ووحدها الأيام ستكشف بدقة عن الخطط والنوايا وكم ستعصف بالحريات، إلا أن المؤشرات كلها تشير إلى نهاية مأساوية لموجة الثورات العربية الأولى.
كاتب مصري
تحية للكاتب المتألق
أوجزت وأحسنت ووصفت المشهد بجملة واحدة
الدولة العميقة الانقلاب الأنيق، السريع، يقوده رجل قانون ألمع وأكثر لباقةً وفصاحةً وذكاءً من الجنرال المصري الذي لا يعرف كيف يصيغ جملةً مفيدة