الحل ليس في تكليف شخص جديد بتشكيل الحكومة ولا في تشكيل حكومة تكنوقراط ولا حتى في حكومة حزبية منفتحة ولا في إجراء انتخابات مبكرة، بل في تغيير النظام.
تونس-القدس العربي”: كان متوقعا منذ البداية أن لا تصمد حكومة إلياس الفخفاخ سوى أشهر معدودة بالنظر إلى طبيعة النظام السياسي الهجين في تونس والذي ينتج حكومات هشة وغير مستقرة، لا قدرة لها على الصمود وسرعان ما تنهار بمجرد أن تدب بعض الخلافات بين مكوناتها. كما أن الحزام السياسي الذي يسندها كان ضعيفا بسبب عناد المكلف بتشكيل الحكومة إلياس الفخفاخ في ذلك الوقت الذي أصر على عدم مشاركة حزب قلب تونس الذي لديه كتلة هامة في البرلمان كان بإمكانها أن تكون سندا سياسيا من الحجم الثقيل للحكومة من داخل قبة باردو.
ومشاركة حركة النهضة في حكومة الفخفاخ فرضتها الضرورة لا غير باعتبار أن الحركة هي الفائزة في المرتبة الأولى في الانتخابات الأخيرة ولا يعقل أن لا تشارك في الحكومة. لكن جماعة “مونبليزير” يبدو أنهم لم يستسيغوا عدم نيل مرشحهم لرئاسة الحكومة الحبيب الجملي لتزكية البرلمان وقبلوا على مضض بتكليف الفخفاخ بتشكيل الحكومة باعتباره لم يكن مرشحهم، وبدا منذ الوهلة الأولى أن ولاءه هو لرئيس الجمهورية قيس سعيد الذي قال الفخفاخ بصريح العبارة أنه يستمد شرعيته منه.
لذلك فإن حكومة الفخفاخ كانت تتشكل فعليا من الحزب الرابع والخامس والسادس في الانتخابات الأخيرة ورئيسها حصل على نتيجة هزيلة في هذه الانتخابات جعلته يتذيل القائمة في الانتخابات الرئاسية كما حزبه في الانتخابات التشريعية. في حين أن الحزب الأول، أي حركة النهضة، شارك على مضض بينما أقصي الحزبان الثاني والثالث تماما وبرزت تحالفات غريبة جعلت المشهد عصيا على الفهم خلال الفترة الماضية.
فالديمقراطية التونسية أفرزت رئيس حكومة لا شعبيه له وأفرزت أيضا تحالفا حكوميا فيه حركة النهضة ومعارضون لها يشكلون معها الحكومة وهما حزبا التيار الديمقراطي وحركة الشعب، بينما في البرلمان للحركة حليفين آخرين هما حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة. وهو ما مثل معضلة حقيقية أعاقت سير دواليب الدولة بعد أن أصبح حلفاء الحكم يتصارعون فيما بينهم وبقي رئيس الحكومة في منزلة بين المنزلتين لا هو رئيس حكومة في نظام برلماني ولا هو وزير أول في نظام رئاسي.
ولا يبدو أن هشام المشيشي سيعمل في ظروف أفضل من سابقيه باعتبار أن معوقات العمل ذاتها ما زالت متوفرة ولم يتغير شيء على أرض الواقع ينبئ بحصول تغيير ما في الحالة التونسية. فرئيس الحكومة في هذا النظام الهجين الذي أقره دستور 2014 مطالب بأن يحصل على تزكية ما لا يقل عن 109 من النواب، وهو ما سيضطره إلى البحث عن حزام واسع من الأحزاب يدعم حكومته حتى لا تسقط بالسهولة التي سقطت بها حكومة الفخفاخ.
وسيجعل البحث عن هذا الحزام المكلف بتشكيل الحكومة يوسع من أعضاء حكومته حتى يستقطب عددا أكبر من الأحزاب وسيضطر إلى إرضاء هذه الأحزاب بالقبول بترشيحاتها للمناصب الوزارية. والمعضلة أن عددا هاما من هذه الأحزاب غير مسؤولة ولا تتوفر فيها مؤسسات تحدد الاختيار الأمثل لهذا المنصب أو ذاك، فتكون ترشيحاتها في أغلب الأحيان ولاءات على حساب الكفاءة.
ويرى البعض أن المشيشي سيكون أكثر حرية من الفخفاخ باعتباره حتى وإن لم يرض أكبر قدر من الأحزاب فإنه سينال تزكية البرلمان في كل الأحوال باعتبار أن نواب البرلمان يخشون من حل برلمانهم وإجراء انتخابات سابقة لأوانها في حال فشل المشيشي في نيل التزكية. لكن المكلف بتشكيل الحكومة سيجد لاحقا صعوبة في تمرير مشاريع القوانين التي بها يمكن تسيير دواليب الدولة، إذا لم يوسع حزامه البرلماني مثلما حصل مع إلياس الفخفاخ، وبالتالي فإن إرضاء الأحزاب “شر لا بد منه” ويجد رئيس الحكومة نفسه مكرها أمامها إلا إذا رضي الجميع بالوضع الهجين وحافظوا على كراسيهم مقابل تعطيل دواليب الدولة.
ويرى البعض أن فرضية حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة ستخدم من دون شك رئيس حكومة تصريف الأعمال المستقيل لتوه إلياس الفخفاخ الذي سيواصل تسيير البلاد بصلاحيات كبيرة إلى حين إجراء الانتخابات والاتفاق على مكلف جديد بتشكيل الحكومة وانطلاق هذا المكلف في مشاوراته بشأن حكومته الجديدة ثم عرضها على البرلمان. وإذا فشل المكلف وقتها سيقع الاتفاق على مكلف جديد أو فرضه لينطلق في مشاورات جديدة ماراثونية وسيجعل كل ذلك الفخفاخ يواصل المقام في القصبة بصلاحيات كبرى قادرة على تغيير المشهد السياسي برمته خاصة وأنه في وفاق تام مع ساكن قرطاج.
والحقيقة أنه لا حل في تونس سوى بتغيير شكل النظامين الانتخابي والسياسي والمرور إلى الجمهورية الثالثة من خلال آليات تحقق الاستقرار السياسي وتجعل العمل الحكومي أكثر نجاعة ليكون التأثير إيجابيا على الاقتصاد الوطني. لكن هذا الأمر يصطدم بعدم رغبة البعض في منح صلاحيات أكبر لرئيس الجمهورية باعتبار أن لا قدرة لهم على إيصال مرشح إلى قرطاج بالنظر إلى أنهم لا يمثلون الأغلبية في النسيج الاجتماعي التونسي في انتخابات يشارك فيها في الدور الثاني من هو معهم أو ضدهم ولا مجال فيها لتشتيت أصوات المنافسين مثلما يحصل في الانتخابات التشريعية.
لذلك لا يبدو أن هناك حلا في الأفق في الوضع الراهن ولن تستطيع أي حكومة أن تغير الأوضاع باعتبارها لن تمتلك عصا سحرية يمكن أن تصنع بها المعجزات في ظل واقع سياسي هجين تم تشخيص أصل الداء فيه ووضعت الحلول لكن البعض يكابرون ولا يرغبون بالتغيير حفاظا على المواقع. لذلك يتوقع أن تفشل حكومة المشيشي في إنقاذ البلاد مثلما فشلت سابقاتها حتى وإن نجح هشام المشيشي في جلب العباقرة إلى حكومته كل في اختصاصه.
فالحل ليس في تكليف شخص جديد بتشكيل الحكومة ولا في تشكيل حكومة تكنوقراط غير متحزبة مثلما يدعو البعض ولا حتى في حكومة حزبية منفتحة على أكبر قدر ممكن من الأحزاب ولا في إجراء انتخابات مبكرة سابقة لأوانها. بل الحل في تغيير هذا النظام الهجين الذي احتار فقهاء القانون الدستوري في تصنيفه والذي من خلاله حصل التنافس وتنازع الاختصاص بين السلطتين التشريعية والتنفيذية التي من المفروض أنهما يراقبان بعضهما البعض لا غير كل في حدود اختصاصه.
فهل يجب أن تكون السلطة في هذا النظام عند الأحزاب وأن يكون رئيس الحكومة معبرا عن إرادتها باعتبارنا في نظام برلماني؟ أم لدى رئيس الجمهورية المنتخب مباشرة من الشعب بالاقتراع المباشر وبعدد كبير من الأصوات فاق ما حصلت عليه الأحزاب مجتمعة وهو من مظاهر الأنظمة الرئاسية؟ إن المتأمل في نتائج الانتخابات يمكن أن ينتصر للجانبين لأنه من حق الأحزاب الفائزة في الانتخابات التشريعية أن تكون في النظام البرلماني الموجهة لعملية التشكيل الحكومي وأن ينبع رئيس الحكومة من صلبها وأن يكون متشبعا بروح مبادئها، لكن بالمقابل من حق رئيس الجمهورية المنتخب بذلك الكم الهائل من الأصوات أن لا يبقى رهين الصلاحيات الدستورية المحدودة التي أقرها دستور 2014 وأن يسعى للعب دور أكبر في الحياة السياسية لأنه يستمد قوته من الإرادة الشعبية التي تحاسبه في النهاية على إخفاقات فترة حكمه.
فالمعضلة إذن في الدستور الذي أفرز هذا النظام الهجين والذي بدا بحاجة لأن تطاله معاول التعديل بحثا عن الأنسب بعد تجربة هامة في الزمن ومليئة بالأحداث مع هذا الدستور.
ألمحت إلى جميع أسباب سحب الثقة من حكومة الفخفاخ وكذلك الوهن الذي أصاب عمل “نوائب” الشعب ،و في نفس الوقت نسيت أو#تناست# السبب الحقيقي في سحب الثقة من حكومة الفخفاخ ألا وهو قضية الفساد المالي
وفقا للكم الهائل لعدد الأصوات في الرئسيات الثانية كان لا بد من تغيير الحكم إلى نظام رئاسي.
عدد الأصوات يعتبر استفتاءا غير مباشر للتحول نحو نظام رئاسي فالذين خروجوا يوم الدور الثاني كان عن قناعة وليس توجيها من أي كان.
لقد أصبح من الضروري ومن انتظارات الأغلبية الساحقة إيجاد آليات قانونية وفق فقه دستوري لأرساء نظام رئاسي يخلص البلاد مما آلت إليه من تدهور على جميع الأصعدة جراء تشتت السلطات الذي أتت به النهضة.