لوس أنجليس – «القدس العربي» ما هو الفن؟ هذا السؤال الذي يطرحه المخرج العالمي تيم بيرتون في فيلمه الجديد «العيون الكبيرة»، المستلهم من السيرة الذاتية للرسامة، مارغريت كين، التي ابتكرت رسومات أطفال مشردين حزينين يتسمون بعيون كبيرة في الخمسينيات.
حياة مارغريت تنقلب رأسا على عقب عندما تلتقي بزوجها الثاني، وولتر كين، الذي بفضل حنكته ولباقته، ينجح في تسويق رسوماتها المجهولة، ويحولها الى أكثر الرسومات شعبية وانتشارا في امريكا، رغم سخرية النقاد منها واعتبارها فنا استهلاكيا هابطا لا قيمة له ولا معنى. هذا النجاح كان له ثمن. وولتر يزعم أنه هو الفنان وراء هذه الرسومات أمام الإعلام والجماهير، التي تتدفق لشرائها، ولم يعلم أحد أن مارغريت كانت تكد ليلا ونهارا في استوديو سري في بيتهم لانتاجها ولارضاء طلبات الزبائن، بينما كان وولتر ينعم بثرائهم ويعيش حياة رخاء برفقة المشاهير.
لم تتحمل مارغريت زوجها المخادع للأبد وبعد أن تركتة، كشفت في مقابلة عام 1970، أنها كانت وراء كل رسومات العيون. وكان رد وولتر لاذعا، متهما إياها بالكذب والخداع، مصرا على أن الرسومات كانت صنعه. ولكن ظهر الحق في المحكمة، حيث فشل وولتر برسم العيون عندما طلب منه القاضي أن يثبت قدرته الفنية، بينما نجحت مارغريت في أداء الرسمة خلال 53 دقيقة أمام هيئة المحلفين.
واستمر ولتر في إصراره على أنه كان رسام العيون، رغم أنه لم ينتج رسمة واحدة ومات عام 2000 مفلسا.
أما مارغريت، التي تبلغ الآن 88 عاما، ما زالت ترسم العيون وتعرضها في صالتها في سان فرانسيسكو بأشكال مختلفة، تتراوح أسعارها بين 200 الى 15 ألف دولار، مما يثير حفيظة نقاد الفن الذين ما زالوا يعتبرون رسوماتها فنا هابطا واستهلاكيا.
«يصفون هذه الرسومات بالفن الهابط، ولكن هذه الرسومات لها قوة مؤثرة غريبة وألهمت إطارا واسعا من الفنانين المقلدين، وحتى اليوم نرى تأثيرها على الفنانين الحديثين،» يعلق بيرتون، وهو أحد المعجبين بكين ويملك مجموعة شاملة من أعمالها. وليس من الصعب أن نلاحظ تأثيرها في أفلامه وخاصة بيتل جويس المعبأ بشخصيات ذات عيون واسعة. وشخصية سالي في «الكابوس قبل عيد الميلاد». ويستحضر بيرتون رد فعل الفنان الامريكي الشهير، اندي وورهول، الذي قال: «أظن أن ما قامت به كين هو رائع. لا بد وأنه جيد. لأنه لو كان سيئا لما نال إعجاب الناس».
جدير بالذكر أن وورهول نفسه كان من مناصري الفن الاستهلاكي، فلا عجب أنه دافع عن كين. ويضيف بيرتون: «أنا اظن أن رسومات العيون غير لفظية وتتغلغل في اللاوعي وهذا ما يجعلها مثيرة جدا. وهذا يطرح السؤال الذي لا يجد جوابا: ما هو الفن؟ هل هذه الرسومات فن أم ابتذال؟ هو سؤال مثير للاهتمام. الصور تأتي وتذهب وبعضها يبقى معك كالحلم، وهذه الصور بقيت معي.
رسومات العيون فتنت وألهمت مخرج الغوثيك بيرتون، المعروف بصناعة أفلام الرعب السوداوية، مثل «فرنكينويني» و»سليبي هولو» و»الظلال الطويلة»، منذ صغره، لأنه وجد فيها عنصرا من الرعب. «أنا نشأت على مشاهدة أفلام الوحوش المرعبة، ويمكن القول إن هذه الصور كانت بمثابة فيلم مرعب.
لا أدري لماذا. كما تلاحظ هناك نوع جديد من أفلام رعب تستند على أطفال مخيفين»، يقول ضاحكا.
الحقيقة هي أن سبب شغف بيرتون، ابن مواليد عام 1958، برسومات العيون يعود أيضا لكونه ابن عائلة عاملة بسيطة من حارة بيربانك المتواضعة في لوس أنجليس، التي لم تزوده بثقافة الفن المجرد والحديث، الذي كان سائدا في طبقات المجتمع الراقية والمثقفة. «أنا لم أتعرف على الفن في صغري.
معظم الناس في بيئة الضواحي التي ترعرعت فيها لم يعرفوا الفن، ورسومات العيون كانت الفن الوحيد الذي كانوا يعرفونه. أنا كبرت في زمن التلفزيون وأفلام الرعب الرخيصة، لهذا نسبة عالية من ثقافتي تعتبر فنا هابطا. ولكن أنا لا أوافق مع هذا التعبير، لانها كان لها تأثير عميق علي». يضحك بيرتون.
ربما هذا التعليق يدل على أن رسومات العيون هي فعلا فن هابط. اذ أن هذا النوع من الفن ظهر أولا في منتصف القرن التاسع عشر، الذي خلق طبقة وسطى جديدة تسعى للترفيه الذي وجدته في أعمال رخيصة تقلد الفن الاصلي الذي كان محصورا بطبقات المجتمع الراقية. وفي منتصف القرن العشرين أصبح هذا الفن هدفا لانتقادات المثقفين اليساريين الذين ادانوه بالذوق السيء والاستهلاكية التي تخبل عقول الجماهير ولا تنوّرها.
هذه الاتهامات طالت أيضا أعمال بيرتون نفسه، اذ قوبلت رسوماته التي عرضت مؤخرا في مدن عالمية مختلفة بانتقادات قاسية، وصفتها بأنها خالية من قيم فنية رغم الاقبال الجماهيري الحافل عليها. «النقاد اعتبروها مقرفة ولكن الجماهير تدفقت لمشاهدتها والاطفال وجدوها ملهمة. فلماذا يشجبها النقاد؟ أنا لن أحاول أبدا أن أعتبر نفسي شيئا ما. انا فقط أحاول أن أقدم أعمالا، ثم أرى ما ينتج منها، لا أكثر من ذلك».
ويعترف بيرتون بأن شعوره بأنه غير مفهوم عند البعض وانفراده وحبه للجديد والمختلف كان ما حثه لسبر شخصيات أفلامه التي تتسم بصفات على غراره. ففي فيلم «إد وود» سلط الضوء على شخصية المخرج إد وود الذي كان، مثل مارغريت، مصدر سخرية النقاد، الذين شجبوا أفلامه بشدة. «كان معروفا كأسوأ مخرج ولكن في الوقت نفسه أعماله كانت لها قدرة مؤثرة،» يقول بيرتون. «أنا أتفهم وأتعاطف مع هؤلاء الناس.
رد الفعل المتناقض على أعمالي شيء يربطني بهم. بعض الناس يصفون أحد افلامي بأنه أكثر سوداوية والبعض الآخر يقولون إنه اكثر مرحا. كيف يمكن أن يكون سوداويا لنصف الناس ومرحا للنصف الآخر؟ وهذا يدل لك على أن الناس يحسون الفن بطرق مختلفة وهذا ما يجعل منا افرادا،» يقول المخرج الهوليوودي الغريب، الذي دأب على صبغ أفلامه القاتمة بالكوميديا، وكثيرا ما يمنح أدوار البطولة للممثل المرح المعروف جوني ديب لكي ينفخ روح الدعابة والبراءة في أفلامه.
مناهضو كين لا ينكرون أن حس وتذوق الفن يختلف من شخص الى آخر وينسبون ذلك لجهل الناس بالفن. فروائع الفن الراقي لا تثير انطباعا لدى العين والأذن غير المدربة وغير المعتادة، ولذلك ينبغي تدريب جماهير غفيرة من الناس على تذوق الأعمال الفنية بمختلف أنواعها من أجل رفع مستوى الذائقة الفنية عند الناس من مختلف شرائح المجتمع وطبقاته حتى يمكنها التمييز بين الفن الحقيقي والفن الزائف.
بيرتون يرفض هذا المنطق مؤكدا أن الفرد نفسه يقرر اذا كان العمل فنا حسب تفاعله معه عاطفيا وذهنيا وتأثيره عليه وليس من حق أحد أن يفرض عليه ذوقا معينا.
الطريف هو أن أفلام بيرتون تستفيد من أضخم نظام تسويق في العالم وهو النظام الهوليوودي، اذ أن هوليوود تنفق مبالغ هائلة لترويج أفلامه، جاعلة منه أحد أكثر المخرجين نجاحا وثراء.
هناك من يعتبر افلام بيرتون استهلاكية جماهيرية وهناك من يعتبرها تحف فنية سينمائية.
ولكن انت نفسك تقرر اذا كان ما تشاهده فنا من خلال شعورك تجاهه.
من حسام عاصي: