تينتي مريضة…

حجم الخط
16

مسكينة شجرة التين التي تضرب جذورها منذ عقدين ونيف في ساحة بيتي، أوراقها صفراء وثمارها صغيرة جافة تتساقط قبل نضوجها، تبدو هذه كمقدِّمات لانهيارها، ربما سأضطر إلى قطعها من أسفل الجذع، كي أسمح لخلوفها أن تتجدّد، فهي تينة فريدة من نوعها، أكوازها كبيرة مُشهية، فيها أكثر من لون ومذاق، ولن أفرَّط بها.
خطر في بالي تساؤل أكثر من مرة إذا ما كانت الأشجار تشعر بالألم!
الحمد لله أنه ليس لها جهاز عصبي مثل الحيوانات، وإلا لهزَّ صراخها أركان الأرض، تخيّلوا كيف سيكون الحال مع الحرائق التي تكتسح عشرات ملايين الأشجار في المنطقة والعالم.
الشَّجرة لا تشعر بألم أو بتوتِّر، لا بِحرٍ ولا ببرد، لكنها تمرض وتذبل وتتوقف عن العطاء.
ينتابني شعور حقيقي بالأسف على شجرة أطعمتني لأكثر من عقدين، أعطت بسخاء، فتلذذت بثمارها وأهديتُ منها إلى من أحبُّهم.
صارت تبدو شبه عارية، كأنها ممزقة الثياب، أشعر بالذنب، فلا بدَّ أنني قصَّرت تجاهها، وأهملت صحتها، أنا المذنب إذ تركت الحشرات والدود والسُّوس يفتك بها دون أن أنتبه، وربما لم أقدِّم لها ما تحتاجه من ماء ودواء في الوقت المناسب، وربما أصبحت تربتها فقيرة في العناصر الضرورية وكان علي أن أسمِّدها، وأن لا أبخل أمام عطائها اللامحدود، العناية والاهتمام هما ما تحتاجه الشَّجرة كي تعطي أقصى وأفضل ما لديها.
في الموسم الماضي أعطتْ بصورة عجيبة، كانت في أوج عنفوانها غزارةً ونوعية، بهجة للنظر، ومتعة في المذاق، قطفت منها في كل صباح مئات الأكواز، وكانت متعتي أن أوزعها على القريبين من أصدقاء وجيران وأقرباء.
بحثتُ عن أسباب هذه الأعراض، فوجدت عدة احتمالات، ولكن يبدو أن أقربها إلى وضعها هي الحشرات والسّوس الذي فتك بجذعها وجذورها.
رأى قريب لي ما أصاب تينتي، فأخبرني بأن لديه شجرتين أصيبتا بهذه الأعراض نفسها، ويبدو أن أكثر أشجار التين في البلدة مريضة، اصفرار وثمار صغيرة تتساقط قبل نضوجها، إنه مرض جماعي، وباء يضرب معظم الأشجار.
عدد أشجار التين ينحسر عاماً بعد عام، هذه الثمرة التي كانت مرادفاً لاسم بلدتنا، تراجعت كثيراً، صار أكثر الناس يشتريها من دكاكين الخضار، بعدما كنا نزوِّد منها حيفا وعكا ومنطقتها.
كل من زارني في هذه الفترة قدّم ملاحظته وخِبرته أو ما سمعه من معلومات حول شجرة التين ورعايتها، والفترة التي تعيشها وأمراضها، وعن كيفية وموعد تقليمها، وضرورة تعريضها أكثر ما يمكن للشَّمس.
كذلك تحدّث البعض عن التغيُّرات المناخية التي تؤثر على الأشجار المثمرة، والأمراض الغريبة التي صارت تضرب المحاصيل الزراعية في كل مكان، وتنذر بمشكلة للبشرية، وللشعوب الضعيفة بشكل خاص.
حاولت رشَّ مبيدات على جذعها وحولها، لكن يبدو أن هذه الإجراءات باتت متأخِّرة.
أكثر من واحد ممن عرفوا فضلها عبَّر عن زعله على تينتي.
سألني بعض من عوّدتهم على زيارة مفاجئة في الموسم: شو مع تينتك السِّنة؟ هل هي بخير؟
أشرحُ ما الذي أصابها، ولكل واحد نصيحة مختلفة، وهذا يجرّنا إلى أحاديث التِّين، حيث كانت هذه الشجرة قبل عقود مصدر دخل إضافي لأسرٍ كثيرة، ولكنه تلاشى، بسبب ما طرأ من تغييرات اجتماعية وسياسية واقتصادية على الناس والأرض وشقِّ الطرق الحديثة والبنيان، فقد أُهمل ما تبقى من التين، والشَّجرة التي تنهار لا يزرعون مكانها، الأكثرية صاروا يفضِّلون الزيتون عليها لأنه لا يحتاج إلى حراسة، ثم إن مساحات الأرض الزراعية تقلصت بحيث لم تعد الأرض مصدراً للدخل.
كلما تذكَّرتُ قصيدة «التينة الحمقاء» لإيليا أبو ماضي، استنكرت هذه التهمة الموجهة لشجرةٍ حكم عليها الشاعر بالإعدام لتوقفها عن العطاء، هذا ربما ينطبق على بني البشر الذين يرفضون أن يعطوا وتقتلهم أنانيتهم وجشعهم، أما في حالة التينة، فالمذنب هو صاحبها الذي أوصلها إلى هذا الوضع، بحيث باتت عاجزة عن العطاء، وأمست مجرَّد وتد يابس في الأرض، وبدلاً من التينة الحمقاء كان أكثر صدقاً نظم قصيدة الفلاح المُهمِل، أو الفلاح الكسول وحتى الفلاح الأحمق.
تينتي أعطت الكثير بلا حساب وبلا تذمُّر، ولو كانت قادرة على التعبير لشكت بعبرة وتحمحم وأسفت لعدم قدرتها على مزيد من العطاء، ويبدو أنني لم أبادلها عطاءها بالعناية اللازمة.
ما حدث بيني وبين تينتي ممكن تطبيقه على الجماعة على مستوى البلدة، وحتى عالمياً، فكوكب الأرض كله مريض، والأشجار تمرض، والتي لم تمرض تحترق، والمياه تزداد تلوُّثاً وحرارة، والأوبئة تفتك بالأحياء بحراً وبراً وجواً وبالنباتات في كل مكان بسبب حماقة بني البشر وجشعهم وتحولهم إلى آلات استهلاكية بدون وعي، حتى باتت البشرية عاجزة عن إصلاح ما أفسدته في الطبيعة.
ما أعظم سلفنا الذي أوصى جنوده بأن لا يقطعوا شجرة… وما أتفه وأحقر أولئك الذين يحللون قطع أشجار الأغيار ونهب محاصيلهم، وكأن إلههم رئيس عصابة من اللصوص وقطاع الطُّرق!
يوم الجمعة الأخير، أعدم ديدان الأرض ولصوصها في قرية جبعة جنوب غرب بيت لحم، عشرات أشجار الزيتون التي تبلغ أعمارها أكثر من ستة عقود.
يدرك المجرمون الألم الذي يسببونه للأب الشرعي لهذه الأرض ولهذه الأشجار، ويتلذّذون بالألم الذي يسببونه لفلاح يذرف دموعه حرقة على أشجاره، لكنهم في الوقت ذاته، يثبتون أنهم غرباء عن هذه الأرض وأشجارها، يبرهنون ويفضحون ادعاءاتهم بالنسب إلى هذه الأرض، فمن ينتسب إلى الأرض لا يقتل أشجارها.
تينتي العزيزة، أنا آسف، أعتذر إذ أهملتك وتركت فرصة للسوس والديدان والحشرات والمرض أن يفتكوا بجمالك، ولكن قصَّتنا لن تنتهي، وعزائي هو بخلوفك الخضراء التي سوف تواصل وتستأنف مسيرتك المشرفة إلى الأبد…

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رسيله:

    مقاله قصيره غاية في الروعة والابداع وهي ذات معنى مجازي فالأشجار تحزن بسبب تعامل بين البشر معها ونهب اراضياراضي أصحابها الأصليين والجذور الخضراء هي دليل على البقاء واستمرارية الذريه والصمود.
    فعلى الرغم من أن النباتات غير قادرة على التواصل، إلّا أن هذا لا يعني أنه لا يمكنها أن تشعر بالألم، فتبعاً للباحثين في معهد الفيزياء التطبيقية في جامعة بون في ألمانيا، فإن إطلاق النباتات للغازات يعادل البكاء من شدة الألم، حيث استطاع الباحثون باستخدام ميكروفونات تعمل بالليزر من التقاط الموجات الصوتية التي تنتجها النباتات عند إطلاقها للغازات أثناء تعرضها للقطع أو الإصابة، لذلك وعلى الرغم من أن تلك الأصوات ليست مسموعة للأذن البشرية، إلّا أن الأصوات السرية التي تصدرها النباتات كشفت بأن نبات الخيار يصرخ عندما يكون مريضاً، وأن الأزهار تأنّ عندما يتم قطع أوراقها.
    هناك أيضاً بعض الأدلة التي تشير إلى أن النباتات يمكنها سماع أنفسها وهي تتعرض للأكل، حيث وجد الباحثون في جامعة ميسوري- كولومبيا أن النباتات تفهم وتستجيب لصوت المضغ الذي تصدره اليرقات التي تقوم بتناول طعامها عليها،( يتبع)

  2. يقول رسيله:

    ( تكمله ثانيه ) وأنه بمجرد سماع النباتات لتلك الضوضاء، فإنها تستجيب بالعديد من آليات الدفاعية. بالنسبة لبعض الباحثين، فإن وجود أدلة على وجود مثل هذه الأنظمة المعقدة من الاتصالات – الأصوات المنبعثة عن طريق الغازات التي تصدرها النباتات عندما تكون في محنة – هي إشارة على أن النباتات تشعر بالألم بالفعل، ولكن بالنسبة لبعضهم الآخر فإنهم يرون بأنه لا يمكن أن يكون هناك إحساس بالألم دون وجود دماغ يقوم بتسجيل هذا الشعور، ولكن الكثير من العلماء يعترفون بأنه يمكن للنباتات أن تؤدي العديد من السلوكيات الذكية على الرغم من عدم امتلاكها للدماغ أو للإدراك الواعي.
    أثناء النمو عادة ما يقوم النبات بتغير مساره لتجنب العقبات أو للوصول إلى الموارد الداعمة للحياة بوساطة أغصانه وجذوره، وهذا النشاط ينبع من شبكة بيولوجية معقدة موزعة ضمن جذور النبات وساقه وأوراقه، وبهذا يمكن القول بأن هذه الشبكة تساعد النباتات على الانتشار والنمو والبقاء على قيد الحياة، فمثلاً يمكن للأشجار في الغابات أن تحذر أقربائها من الأشجار من هجمات الحشرات.( يتبع)

  3. يقول رسيله:

    ( تكمله ثالثه ) عندما قام أحد العلماء بحقن أشجار التنوب بنظائر الكربون المشع، رأى أنه في غضون بضعة أيام كان الكربون قد أرسل من شجرة إلى أخرى حتى وصل إلى جميع الأشجار التي تقع في محيط يصل إلى 30 متراً مربعاً تقريباً من الشجرة الهدف، ومن هنا تبين للعلماء أن الأشجار الناضجة “تتصل مع بعضها” من خلال شبكة لتبادل المواد الغذائية من خلال جذورها لتوفر التغذية اللازمة للشتلات المجاورة لها حتى تصبح طويلة بما يكفي لتستطيع التقاط الضوء بنفسها وتصنيع المواد الغذائية الضرورية لها.هذا ويقول «مايكل بولان» مؤلف كتاب «مأزق آكل النبات واللحوم» «لديها بيئة مماثلة لبيئتنا، لديها طريقة لجمع كل البيانات الحسية خلال حياتها اليومية، وتنظيمها والتصرف بشكلٍ ملائم إزائها. تفعل ذلك كله دون عقل، وهو ما يدهشنا إذ نعتقد دائمًا أن معالجة المعلومات تحتاج إلى العقل».
    اذا التساؤل الذي يطرح نفسه كما اشرت كاتبنا ؟هل يمكن أن يكون للنبات ذاكرة؟ يبدو أن الإجابة نعم، فبعض العلماء يؤكدون أن النبات يشعر ويتعلم ويتذكر، ويستجيب بطرق قد تكون مألوفة لنا نحن البشر، إنها دراسات أُجريت في مجال علم أعصاب النبات وهي تسمية، وإن لم تكن دقيقة، إلا أن العلماء لا ينكرون أن يكون للنبات خلايا عصبية أو أدمغة.(يتبع)

  4. يقول رسيله:

    ( تكمله رابعه )يقول بولان: إن النبات يشعر أيضًا كالبشر، وربما أكثر، فهو يشعر بنقص المياه أو زيادتها، كما أنه يشعر بالخطر الذي يهدد جذوره حتى قبل الاتصال بها، كما أنه يغيّر اتجاهه ليتفادى العقبات.
    وماذا عن الألم استاذ سهيل ؟
    إنها تتألم أيضًا ويمكن للمخدر الذي نستخدمه نحن البشر أن يؤثر فيها، كما أنها تُنتج مخدرها الخاص الذي يمكن أن نتأثر به نحن أيضاً. كما تنبعث من النباتات غازات تشبه صرخات الألم لدى قطع جزءٍ منها.
    ووفقا للباحثين بمعهد الفيزياء التطبيقية بجامعة بون الألمانية فقد استطاعوا عبر ميكروفون ليزر التقاط موجاتٍ صوتية أيضًا تنتجها النباتات بجانب الغازات، حين تُقطع أو تُصاب أجزاؤها، ولا يكون الصوت مسموعًا لنا، لكنها أصوات تشير إلى أن النباتات تصرخ حين تتألم.
    وهناك شئٌ مجهول في تفاعل النباتات فهي لا تحتوي على خلايا عصبية، لكن لديها نظامًا لنقل الإشارات الكهربية، يتضمن هذا النظام إنتاج ناقلات عصبية، كالدوبامين والسيروتونين، والمواد الكيميائية الأخرى التي يستخدمها العقل البشري في نقل الإشارات.( يتبع)

  5. يقول رسيله:

    ( تكمله خامسه )أن الأشجار بشكل عام تقوم بمشاركة غذائها لرفيقاتها، وحتى لمنافساتها، والسبب يشبه السبب نفسه في تعاوننا نحن البشر وعيشنا في مجتمعات؛ لا يمكن للشجرة أن تواجه وحدها تغيرات الطقس والمناخ والرياح، لكنها حين تتحد مع الأشجار الأخرى، فيمكنها توفير قدر من الرطوبة وتخزين المياه، بحيث تتكون بيئة يمكنها حماية الأشجار، وبهذه الطريقة يمكن لحياتها أن تمتد لمئات السنوات.
    دون هذه المشاركة لن يمكن للأشجار الصمود طويلًا في مواجهة الرياح وحرارة الصيف، إن بحثت كل شجرة منفردة عن gغذائها فقط، فستعاني كل الأشجار، إن ما يحدث هو أن كل شجرة تقدم الدعم الممكن لمن حولها من الأشجار، وهذا ما يفسر أن الشجرة المريضة تتلقى الغذاء والدعم إلى أن تسترد سلامتها، وتقوم هي نفسها بتقديم الدعم للأشجار حولها في مرحلة أخرى.
    لكن هذا لا يحدث دائمًا، هناك أشجار تحيا بالفعل، لكن هناك أشجارًا لا تحظى بهذا الدعم وتموت.
    يبدو بأن بأن العلاقات بين الأشجار أو ربما «المودة» تكون متفاوتة، فالدعم الذي تقدمه الشجرة لمن حولها يحكم قدر الدعم الذي يُقدّم لها لاحقًا.( يتبع )

  6. يقول رسيله:

    ( تكمله اخيره ) يقول فوليبن في كتابه: « فحينما تعرف أن الأشجار تشعر بالألم ولديها مخزونها من الذكريات، كما أن الآباء من الأشجار يعيشون مع أبنائهم، لا يعود في الإمكان أن تقطع الأشجار أو تُفسِد حياتها بالمعدات الثقيلة».
    لهذا، فكل شجرة لها قيمتها في المجتمع ومطلوب أن تبقى لأطول وقت ممكن، حسب فوليبن، فتدعم الأشجار الصحيحة أخواتها المريضة وتغذيها حتى تتعافى، فربما انقلب الوضع وباتت الشجرة الداعمة في موضع الحاجة في المرة التالية.
    واذا لا يسع المرء إلا أن يتساءل إن كانت الأشجار أقدر على تبادل المنافع من الإنسان لأن حياتها تخضع لمقياس زمني مختلف، فهل فشلنا في رؤية الصورة الشاملة لعملية التكامل البشري يُعزَى إلى قصر أعمارنا؟ وهل تتصرف الكائنات التي تعيش تبعًا لمقياس زمني مختلف على نحو أفضل في هذا الكون شديد الترابط؟ ام ان الأشجار باتت أكثر ترابطا في علاقاتها مما باتت عليه علاقة الإنسان بأخيه الانسان ألسنا كلنا أبناء آدم.
    الرائع سهيل كيوان ابداعك فاق الخيال في قدرتك على إثارة الطبيعة في معاتبة الإنسان، دام نبض خيالك.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية