كان والدي في أوائل السبعينيات يعمل في السفارة الألمانية في بغداد، وكان أحد زملائه ويدعى جوزيف كونوي وكان يراه بشكل شبه يومي بحكم العمل والصداقة. وقد يبدو الاسم إنكليزيا، ولكن حامله في الواقع كان عراقيا من أب هندي وأم عراقية، ولد في العراق، وأصبح عراقيا قحا، حتى إن أحدا لم يلاحظ أن مظهر جوزيف كان أقرب إلى الهنود منه إلى العراقيين. وكان من الصعوبة العثور على من هو أكثر من جوزيف لطفا ورقة حيث كان لا يطيق أن يكون بمفرده، ولذلك كان محاطا دائما بالأصدقاء، وإذا لم يكن برفقة صديق فكأس الويسكي كان رفيقه في تلك الحالة. ولم يكن جوزيف شخصا عاديا، حيث تكلم العربية والألمانية والإنكليزية بطلاقة، وكان يعمل مترجما في السفارة الألمانية، يضاف إلى ذلك أنه كان خطاطا بارعا، وكان له آنذاك محلا تجاريا في هذا المجال في بغداد، ولكن بغداد تلك الأيام كانت تعيش أياما عصيبة بسبب موجة إجرامية بشعة كانت نتيجتها مقتل عدة عوائل ثرية بأكملها بأسلوب متوحش، ونسبت هذه الموجة الإجرامية لقاتل أطلق عليه العامة اسم «أبو طبر».
وفي أحد الأيام لاحظ والدي أن جوزيف قد انقطع عن الدوام ما أثار استغرابه وقلقه عليه، وحاول الاستفسار عنه بدون جدوى، فقد اختفى الرجل بشكل أثار ريبته، ولكن بعد ثلاثة أشهر عاد جوزيف إلى عمله في السفارة والتقى به والدي، وأبدى سعادته لرؤيته مرة أخرى وسأله عن سبب انقطاعه عن الدوام، ولاحظ والدي محاولة جوزيف لتجنب تقديم تفسير مناسب، ولكنه، وهو الذي عرف بكياسته، رضخ لإلحاح والدي في نهاية المطاف وقرر البوح بسره.
جلس جوزيف على المقعد أمام والدي وهو يرتشف قهوته وينظر نحو الأفق بدون أن يجيب والدي على سؤاله ثم التفت إليه وقال:
سأخبرك ولكن عليك أن تعدني بأن لا تخبر أحدا بقصتي هذه، لأن رجال الأمن لو عرفوا بأنني رويت قصتي لأي كان فسيعيدونني إلى السجن مرة أخرى ولن أخرج منه.
فأجابه والدي بأنه يعده بأن لا يخبر بقصته أي أحد.
لقد كان سؤال والدي إليه هو أين اختفى في الثلاثة أشهر الماضية؟ وعندها أردف جوزيف قائلا: أنا كما تعلم أعمل موظفا في السفارة الألمانية صباحا ولزيادة دخلي افتتحت محلا لعمل الأختام والزنكوغراف وأداوم في هذا المحل يوميا من الساعة الرابعة عصرا وحتى التاسعة مساء، وبعدها أستقل إحدى سيارات الأجرة للوصول إلى بيتي. وفي أحد الأيام أنهيت عملي في المحل الذي كان في شارع الرشيد وأغلقته، وأوقفت إحدى سيارات الأجرة وجلست بجانب السائق وكان من عاداتي السيئة أن أتبادل الحديث مع السائق عند ذهابي إلى البيت، لذلك فقد بادرت إلى سؤال السائق عن اسمه وأصله فقال إنه يدعى حاتم ومن الجنوب، ولكنه يسكن الآن في بغداد بعد أن عاد من ألمانيا، وعندها سألته إذا كان يتكلم الألمانية فأجاب بالإيجاب، فقلت له بأنني كذلك كنت في ألمانيا، ولكن بعد بضعة سنين لم أستطع إكمال دراستي فعدت إلى العراق، وها أنا أعمل كمترجم في السفارة الألمانية. ثم استمر الحديث بيننا حتى وصولنا إلى البيت فدعوته إلى شرب البيرة عندي ونواصل الحديث عن ذكرياتنا في ألمانيا، فوافق على الفور ودخل معي إلى البيت وشربنا البيرة حوالي الساعة ثم استأذن للذهاب لمواصلة عمله فودعته إلى الباب، وقلت له أين يقع محل عملي مساء، وأنه يستطيع زيارتي متى يشاء. زارني هذا السائق في محلي في اليوم التالي وشربنا البيرة مرة أخرى وهكذا أخذ يكرر زيارته لي في المحل كل يوم تقريبا.
انقطع عن زيارتي لثلاثة أو أربعة أسابيع واعتقدت أنه لا بد قد سافر إلى أهله في الجنوب، أو ربما كان مريضا. وفي أحد الأيام جاءني شخص لا أعرفه وسأل عن السائق حاتم، وقلت له إنه لم يزرني منذ عدة أسابيع، وعندها أخرج من جيبه مظروفا وطلب مني أن أعطي هذا المظروف إلى حاتم عندما يأتي لزيارتي، فأخذته منه ووضعته على الرف على أن أسلمه له عند زيارته المقبلة لي.
وفي أحد الأيام بينما كنت في البيت أشاهد التلفزيون، إذ أعلن المذيع أن محطة التلفزيون ستقدم برنامجا يظهر فيه «أبو طبر» المجرم المعروف الذي بث الرعب في قلوب سكان بغداد خلال الفترة الماضية، لارتكابه العديد من جرائم القتل الوحشية. وبعد قليل ظهر هذا المجرم على شاشة التلفزيون فذهلت ذهولا عظيما، إذ لم يكن هذا المجرم سوى حاتم سائق سيارة الأجرة الذي كان يزورني كل يوم، ولم أنم في تلك الليله حتى الصباح قلقا، فأنا الذي بادرته بالكلام ودعوته في بيتي وعرفته على عائلتي وجلست معه مطولا عدة مرات، وشعرت أنني عرضت عائلتي ونفسي للموت. وعند الصباح ذهبت إلى محلي في شارع الرشيد وأخذت المظروف الذي كان على الرف بدون أن أفتحه متوجها إلى مديرية الأمن العامة، وقصصت عليهم قصتي مع هذا الشخص وأعطيتهم المظروف العائد له اعتقادا مني بأن عملي، هذا يدل على براءتي وإخلاصي للنظام حتى أنني اعتقدت بأنهم سيشكروني على عملي هذا. ولكن الذي حدث كان على العكس تماما إذ أدخلوني إلى الموقف وبدأوا يحققون معي وكأنني شريك هذا المجرم واتبعوا معي جميع أنواع التعذيب الجسدي من استعمال المكواة وربط جسمي بالسلك الكهربائي، واستمر هذا التحقيق معي ثلاثة شهور حتى اقتنعوا أخيرا بعدها ببراءتي وأطلقوا سراحي، وقالوا لي إنني إن قلت ما حدث لي في جهاز الأمن لأي أحد فسيعيدوني إلى التوقيف ولن أخرج. وهذه قصة اختفائي لثلاثة شهور.
٭ باحث ومؤرخ من العراق
نريد أن تستكمل قصة والدك بعدما غادر السفارة الألمانية ؟ فهي قصة مثيرة ياسيد خلدون!
حاتم كاظم (أبو طبر) لم يكن سائق تاكسي، أولاً، ولم يقم بجرائمه بعد الحرب العراقية الإيرانية ثانيا، بل قبلها، في السبعينات
كنّا طلابا في الكليه ببغداد في سنتها وظهر الرجل على شاشات التلفزة العراقيه مع سعيد الصحاف الذي كان مدير لها