يبدو أن هناك خططا أمريكية وغربية قيد الإعداد لمواجهة داعش في سوريا، وإن كان من مستبعدا أن تتجاوز ضربات جوية، وربما عمليات كوماندوس محدودة. غرض الضربات المرجح هو وضع الكيان الإرهابي الناشئ تحت الضغط، وإشغاله بلملمة نفسه، ومنعه من «التمدد».
من جهته، النظام الأسدي سارع إلى عرض نفس للإيجار في المعركة الغربية الجديدة. وبينما لا تزال القوى الغربية تعلن احتقارها له، لا يبعد أن تستأجره كقاعدة عسكرية متقدمة ضد الكيان الإرهابي، فتسهل تجديد انتدابه على السوريين.
بيد أن مواجهة داعش لا يمكن أن تثمر بضربات عقابية، مهما أمكن لهذه الضربات أن تكون مؤذية للكيان الجديد. لا يستغنى عن هذا البعد العسكري لمواجهة قوة فاشية، تعتمد على الإرهاب كتكنيك قتالي، وكاستثمار سيكولوجي، وكمنهج حكم. مواجهة الكيان الإرهابي بالعنف ليس شرعيا كعقاب على جرائم موصوفة فقط، وإنما لأنه يتعذر التخلص من ظاهرة استعمارية واستيطانية كهذه دون مواجهتها بالقوة. ومشكلة التدخل الغربي المحتمل ضد داعش لا ترتد إلى اقتصاره على مواجهة الكيان الإرهابي بالسلاح، بل تتجاوزه إلى أنها مواجهة محدودة، تندرج في منطق إدارة الأزمة، وليس الحل السياسي الجذري لها. منهج إدارة الأزمات ينطوي على نزع أي بعد متصل بالعدالة والتحرر عن صراعاتنا، واعتبارها أقرب إلى صراعات بين أولاد أشقياء ولا عقلانيين على حد سواء، والشيء الوحيد المهم هو تهدئتهم واستعادة الاستقرار.
لا شيء أسوأ من هذا المنهج أو أكثر أنانية وانعداما للمسؤولية. وهو مسؤول عن دفع سورية إلى دمار واسع، كما عن ولادة كائنات مستحيلة مثل داعش. ربما يفكر الأمريكيون أن مسخ داعش يتولد بصورة طبيعية في «المستنقع» الشرق أوسطي. معهم حق. لكن هذا المستنقع الكريم نتاج «جهاد»ـهم و»جهاد» القوى الغربية طوال أجيال، ونتاج تسييد كيان استيطاني إرهابي آخر، إسرائيل، في المنطقة، أكثر مما هو نتاج «الأولاد» السوريين والعراقيين والفلسطينيين واللبنانيين إلخ. وليست بعيدة عن صناعة المستنقع تلك الأولوية المستمرة للاستقرار على يد أنظمة إرهابية مثل النظام الأسدي وأشباه له على حساب العدالة والكرامة البشرية.
لذلك حتى لو كانت مواجهة الأمريكيين والغربيين للوحش داعش أكثر من تأديبية، وحتى لو جرى نشر قوات على الأرض، وكان الهدف تدمير داعش وليس تدويخها فقط، فإن هذه المواجهة بعدٌ واحد فقط من ثلاثة أبعاد لا بد منها كي تكون مثمرة.
البعد الثاني هو مواجهة الإرهابي الأصلي، النظام الأسدي، أو مساعدة السوريين على التخلص منه. وهذا ليس فقط لأنه لا وجه عادلا لمعاقبة داعش على جرائم ارتكب النظام الأسدي أضعاف أضعافها، ولا لأن الاستنفار ضد كيان مجرم مع إعفاء كيان مجرم آخر ما انفك يقتل يوميا يعطي أسوأ رسالة للسوريين و»الشرق أوسطيين» عموما، وإنما كذلك لأن من شأن إفراد داعش بالضرب أن يكون خدمة لرسالتها العدمية. لقد استثمرت داعش، والمجموعات الإسلامية كلها، في سحب السوريين وكثيرين من العرب ثقتهم من العالم وعدالة العالم، وعلى هذا يقوم الاستعداد الداعشي لتدمير العالم في بيئاتنا الاجتماعية والنفسية.
ومن شأن ضربة غربية لداعش في الرقة مثلا، المدينة التي كان النظام الأسدي يقصفها متجنبا داعش، قبل أن يستمر في قصفها بذريعة ضرب داعش، أن تقرب الرقاويين أكثر من الكيان الإرهابي لا أن تبعدهم عنها. فإما أن يضرب المجرمان معا، أو أن لا يضرب أحدهما ويترك الآخر. قطع رأس جيمس فولي، وهو جريمة بشعة، لا يقارن بقتل 11 ألفا تحت التعذيب حى أب 2013، ولا بالمذبحة الكيميائية في الغوطة، ولا بمذابح داريا وجديدة عرطوز وبانياس والحولة والتريمسة وغيرها. الجرائم لا تتفاضل، لكن من شأن معاقبة مجرمين والسكوت عن مجرمين آخرين، أن يدمر مفهوم الجريمة ذاته، ومعه مفاهيم العدالة والعقاب العادل. وباب العدمية والأرهاب المفتوح من جراء هذا النهج غير المسؤول سيزداد انفتاحا، وقد نرى ولادة كائنات أشد استحالة حتى من داعش.
هناك بعد ثالث لمواجهة الكيان الإرهابي لا يمكن للغربيين المساعدة فيه إطلاقا، ويكون الحال أفضل كلما كانوا أبعد عنه. داعش ليست قوة إجرامية فقط، ولا هي وليدة سياسات إجرامية محلية ودولية فقط، وإنما هي «إسلام» أيضا. المسلمون والإسلاميون الذين يقولون إن داعش صنيعة استخباراتية، و»الإسلام منها براء»، يخادعون أنفسهم. داعش نتاج تطور تنظيم «القاعدة» في شروط سورية وعراقية معلومة، والقاعدة نتاج سعودي مصري (السلفية السعودية والقطبية المصرية). ليس هناك ذرة جدية في مقاربة داعش مع إهمال البعد الديني في تكوينها، وإن يكن بلا ريب بعدا متشكلا بالتاريخ المعاصر. هذا الوحش من إنتاجنا، إنه وليد تعفننا السياسي الفكري والأخلاقي.
والحال أن هذا المستوى الثالث من مواجهة داعش لا يمكن أن ينهض به إلا المسلمون أنفسهم، السنيون في سياقنا. داعش فكرة إسلامية، والفكرة تواجه على مستوى الفكر. تُرى أين هي الفكرة الإسلامية التي يمكن أن تقف في وجه داعش وقوفا صلبا وغير متهافت؟ الانطباع الذي تولده في النفس انتقادات الإسلاميين لداعش هو أن المشكلة في أسلوبها الفظ، في تعجلها ورفضها لمنطق التدرج، وربما في عدم ملاءمة الظروف الحالية للخلافة، وليس في مشروع فرض حكم إسلامي بالقوة. هذا ليس جديا، بقدر ما إن تمييز الأمريكيين بين جرائم النظام وجرائم داعش ليس جديا. ويتجاوز الأمر الوضع الحالي على كل حال إلى وجوب إعادة هيكلة واسعة للمعتقد الإسلامي باتجاه يرفع منسوب الإيمان والعدالة فيه على حساب منسوب السلطة والتشريع. هذه عملية أطول أمدا، لكنها المستوى الجذري لمواجهة مستحيلات مثل داعش. وليس منفصلا عن هذه العملية تطوير نظم تفكير وقيم دنيوية تحررية. من مصادر الإسلامية المتشددة اليوم هزال المضمون التحرري لفكرنا الدنيوي وعجزه عن المنافسة.
والخلاصة أن داعش مشكلة أمنية، وأكثر من هذا مشكلة سياسية، وأكثر من هذا وذاك مشكلة فكرية. المواجهة الفعالة لداعش تمزج بين مقاومتها بالقوة، وهو ما بدأه سوريون ضد النظام قبل غيرهم، وبين تقدم نحو العدالة في سوريا بالتخلص من النظام الأسدي، وبين عمل فكري إسلامي ينتزع الإسلام من يدي داعش، وينتزع الداعشية من الإسلام.
٭ كاتب سوري
ياسين الحاج صالح