ثلاثون عمر أبو ريشة

حجم الخط
3

مرّت يوم 15 تموز (يوليو) الذكرى الثلاثون لرحيل الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة (1908 – 1990)؛ الذي أرجّح، ابتداءً، ولادته في هذا العام، وليس 1910 كما تقول روايات أخرى؛ وفي مدينة عكا، حيث دار جدّه لأمّه إبراهيم اليشرطي، وليس في بلدة منبج السورية كما يقول قيد نفوسه الرسمي. سبب هذا الاختلاف أنّ الوالد شافع مصطفى أبو ريشة كان دائم التنقل، وعمل قائمقاماً في الخليل وحوران وطرابلس ومنبج، ولم يسجل ولادة ابنه عمر إلا في منبج بعد سنتين.
تَعارُض الروايات حول سنة الولادة ومكانها لم يقابله تعدّد كافٍ في الأعمال النقدية التي تناولت تجربة الشاعر، وباستثناء عدد قليل من الأطروحات الجامعية، والفصول المتفرقة في مجاميع نقدية عامة (بعضها بالغ الأهمية، مع ذلك، عند أمثال شوقي ضيف، مارون عبود، محمد مندور، أحمد الجندي، محمد مصطفى بدوي، عمر الدقاق…)؛ يمكن التنويه بالمؤلفات التالية، بين أخرى سواها بالطبع: إيليا حاوي، في «عمر أبو ريشة شاعر الجمال والقتال»، 1980؛ محمد إسماعيل دندي، في «عمر أبو ريشة دراسة في شعره ومسرحياته»، 1988؛ جميل علوش، في «عمر أبو ريشة حياته وشعره»، 1994؛ وفايز الداية، في «دلالات السيرة والأسلوب عند عمر أبو ريشة»، 2018، ولعله الأفضل إحاطة بتجربة الشاعر، والأعلى دقة في تصويب مسارات حياته اتكاءً على معلومات مباشرة من بعض أفراد أسرته.

الشاعر سُجن بسبب مواقفه ضدّ الانتداب الفرنسي، واختلف مع الكثير من أبرز ساسة بلده في المواقف والخيارات، ولكنه بقي صوت سوريا الشعري والإنساني الأعلى والأبهى في عصره، وصاحب قصيدة الجلاء الخالدة

أقدار أبو ريشة، ضمن إطار الدراسة والعمل لاحقاً، قادته من منبج إلى حلب ثمّ بيروت، قبل أن يوفده والده إلى مانشستر للتخصص في الأصبغة وكيميائيات النسيج، وثمة رواية تقول إنه سعى إلى إبعاده عن الشعر والسياسة في آن معاً؛ ثمّ يحطّ به الترحال في مدن وبلدات سورية وعربية مثل معرّة النعمان وحمص وحماة ودمشق وبغداد والقاهرة وعمّان، ويمثّل بلده في سفارات البرازيل والولايات المتحدة والهند؛ قبل أن يغمض عينيه للمرّة الأخيرة بعيداً عن عكا ومنبج وحلب، في الرياض السعودية. هذه مسارات أوديسية الطابع، كما قد يجوز القول، لم تفتح باصرة أبو ريشة وبصيرته على عوالم أخرى وثقافات مختلفة وتجارب إنسانية شتى، فحسب؛ بل لعلّ أفضل ثمارها، عندنا نحن القرّاء على الأقلّ، كانت اكتناز مشروع الشعري بقراءات ثرّة ومتشابكة وتجريبية الطابع، وحداثية على نحو خاصّ مفاجئ كذلك.
لافت أنه يكتب ما يلي، في سنة 1936، وفي مجلة «الحديث» الحلبية وليس في أية دورية أجنبية: «سئمتُ هذا الشعر وهذه الزمرة من الشعراء [ويقصد أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم] فعدت أبحث في كتب الأدب، فعثرت على شعر جيد مبعثر هنا وهناك كأبيات لأبي صخر الهذلي: وما هي إلا أن أراكِ فُجاءةً/ فأبهتَ لا عرفٌ لديّ ولا نكرُ». أو يتابع: «أحبّ الشعراء إليّ اثنان هما بو وبودلير اللذان صرفت الساعات الطوال في مطالعة آثارهما، فهما أشبه بلولب صور في حانوت رسام كيفما حرّكته وجدت صوراً جديدة تختلف كل صورة عن أختها كلّ اختلاف وفي كلّ منها رمز ينقلك إلى أفق».
ولعلها لم تكن صدفة محضة أنّ صداقاته الحلبية، الشعرية على وجه الخصوص، ضمّت أمثال الشاعر الطبيب علي الناصر، أحد أئمة السوريالية المبكرة في سوريا، والذي سيصدر ديوان «سريال» مع اورخان ميسر سنة 1947، فيطلق أبو ريشة على الأخير تسمية «بودلير سوريا». كذلك كانت سنوات دراسته في بيروت، ابتداءً من 1924، قد أتاحت له أن يزامل أمثال وجيه البارودي وإبراهيم طوقان؛ الأمر الذي لعله كان وراء تحريضه على كتابة مسرحية ناقدة، في سنة 1934، بعنوان «محكمة الشعراء»، تجري على ألسنة أبولون، منيرفا، فينوس، باخوس، هيلوس، ديميتر، بلوتو، هرقل؛ والشعراء معروف الرصافي، بشارة الخوري، حليم دموس، شفيق جبري، أحمد زكي أبو شادي، إبراهيم ناجي، أحمد الصافي النجفي، جميل صدقي الزهاوي، علي الناصر، شبلي الملاط، علي محمود طه، وعباس محمود العقاد.
وليس أقلّ إثارة للانتباه ما قاله عن الشعر في محاضرة استضافها النادي العربي في دمشق، سنة 1947: «ما هو مثلي الأعلى في الشعر؟ أأريد من الشعر أن أشمّ فيه، وأسمع فيه، وأتذوق أنفاس الحياة وروائحها ونكهاتها؟ أم أريد أن يغيّبني فيها حتى لا أعود أشعر بكياني الذاتي؟ لا أدري ماذا أريد!». ويتابع: «إذا تركتُ جانباً الموازين المنطقية التي تزن قيم الشعر، والتي أراها لا تشفي غلّة ولا تبلغ غاية، لأنّ الإحساس بالجمال كما أرى مصدره العاطفة والذوق، لا العقل والعلم. أقول إذا تركت تلك الموازين جانباً، والتفتُّ إلى الشعر الذي أكتبه وجدتني شاعر قصيدة لا شاعر بيت، والقصيدة عندي فكرة معينة منطوية تحت أجنحتها الثلاثة: الخيال واللون والنغم».
وتلك آراء كانت تقطع مع زمنها جمالياً، ولكن من دون أن تقاطع سياقاته ومناخاته ومعطياته السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية؛ فالشاعر سُجن بسبب مواقفه ضدّ الانتداب الفرنسي، واختلف مع الكثير من أبرز ساسة بلده في المواقف والخيارات، ولكنه بقي صوت سوريا الشعري والإنساني الأعلى والأبهى في عصره، وصاحب قصيدة الجلاء الخالدة:
يا عروس المجد تيــهي واسحبي/ في مغانينا ذيول الشهب
كمْ لنا من ميسلون نفضت/ عن جناحيها غبار التعب…

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامي صوفي:

    كان الراحل عمر أبو ريشة شاعر سوريا الأول. و هي مكانة لم ينافسه عليها إلا شاعرنا الكبير بدوي الجبل و ليس نزار قباني كما يِخال للبعض. رحمهم الله.

  2. يقول حي يقظان:

    [«ما هو مثلي الأعلى في الشعر؟ أأريد من الشعر أن أشمّ فيه، وأسمع فيه، وأتذوق أنفاس الحياة وروائحها ونكهاتها؟ أم أريد أن يغيّبني فيها حتى لا أعود أشعر بكياني الذاتي؟ لا أدري ماذا أريد!» […] «إذا تركتُ جانباً الموازين المنطقية التي تزن قيم الشعر، والتي أراها لا تشفي غلّة ولا تبلغ غاية، لأنّ الإحساس بالجمال كما أرى مصدره العاطفة والذوق، لا العقل والعلم. أقول إذا تركت تلك الموازين جانباً، والتفتُّ إلى الشعر الذي أكتبه وجدتني شاعر قصيدة لا شاعر بيت، والقصيدة عندي فكرة معينة منطوية تحت أجنحتها الثلاثة: الخيال واللون والنغم»]
    ما يقوله الشاعر السوري الكبير في طبيعة وماهية وأهمية الشعر، بصفته أرقى أجناس الكتابة الإبداعية طرًّا، إِنَّمَا يُغني، بكلِّ جدارةٍ وإباءٍ، عن كتبٍ ومجلَّداتٍ بأكملها ممَّا يقوله فيه النقاد الأدبيون كافَّتهم، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم!

  3. يقول Ahmad/Holland:

    قصيدة للشاعر عمر أبو ريشة في وصف حافظ الأسد بعد مجزرة حماه.ولم نرى نزار قباني او غيره من الشعراء السوريين كتبو عن شي مجزرة حماه.

    العـاجزُ المقهـورُ أقتَـلُ حيلةً= وأذلُّ منطلَقاً ، وأنـذلُ مقصِـدا
    نشر الخسيسُ من السلاح أمامه= واختارَ منه أخسـَّه ، وتـقـلَّدا
    وحبا إلى حرم الرجال، ولم يذُقْ= من قُدسِ خمْرتهم ولكنْ عربـدا
    وافتَنَّ في تزييف ما هتفوا بـه= وارتدَّ بالقِيَـمِ الغـوالي مُنْشـِدا
    البغيُ أروع مـا يكـون مظفراً =إن سُلَّ باسم المكرمـات مهنَّـدا
    لا يخدعنِّكَ دمعُه وانـظرْ إلى = مـا سال فوق أكفه ، وتجـمَّدا
    لم تشربِ الحُمَّى دماءَ صريعِها =إلا وتكسـو وجنـتـيه تـورُّدا
    وأزاحت الأيـام عـنه نقابـه= فأطلَّ مسْخاً بالضـلال مـزوِّدا
    ترك الحصونَ إلى العِدى متعثراً= بفراره، وأتى الحِمَى مُسْتأسـِدا
    سـكِّينـه في شـدقه ولعـابُه= يجري على ذكر الفريسة مُزبدا
    ما كان هولاكو ، ولا أشـباهه= بأضلَّ أفئـدةً و أقسـى أكـبُدا
    هذي حماة عروسةُ الوادي على= كِبْر الحداد، تُجيل طـرفاً أرمدا
    هذا صلاح الدين يخفي جرحه =عنها، ويسأل: كيف جُرْحُ أبي الفدا
    سرواتْ دنـيا الفتح هانتْ عنده = وأصاب منها ما أقـام وأقعـدا
    ما عفَّ عن قذف المعابد باللظى= فتناثرت رِممـاً، وأجَّتْ موقـد

إشترك في قائمتنا البريدية