كسائر الأفكار التي تُغرس في النفس فيعتاد عليها الإنسان حتى تغدو قانونا ساريا، يسهر على تطبيقه وحمايته أولئك الذين غرسوه ووطدوا مكانته في الوجدان، مثل تلك الأفكار الوضعية والمتطورة تتمثل لنا فكرة الوطن. وهي فكرة تختلف من بلد إلى آخر وذلك بقدر اختلاف الموارد والمشارب التي غذتها وسرت في أوصالها.
وهي فكرة يتغير فهمها واستيعابها من أمة إلى أخرى. فنحن عندما نسمع عبارات من قبيل (قداسة) الوطن، أو حرمة الوطن، أو غير ذلك مما تنضح به المخيلة وتقدحه اللغة (كما هو الحال لدى عرب اليوم) يخيل لنا شيء فوق أرضي، نظيف لا تلوث أطرافه شائبة ومنزه عن عوارض الزمن. هذه صورة وطن ما زال في مراحله الجنينية، حيث الانطواء والهشاشة وانكسار الرؤية.
هناك أمم أخرى أكثر واقعية في درجة إدراكها لمفهوم الوطن ومدى مواءمتها بينه وبين معطيات الواقع وقيم التاريخ ومقدرات المستقبل. نجد أن الروس (مثلا) عادة ما يقرنون الوطن بالأم. الأم التي حملت بهم وأنجبتهم وأرضعتهم وربتهم ولن يفطمهم عنها إلا الموت. ومع أن قوام هذه العلاقة مع الوطن عاطفي بدوره، إلا أنه أكثر واقعية وتطورا عن سابقه صاحب القداسة. إنها هنا علاقة (قرابة) لا قداسة. مع ذلك فالأم، وإن كانت صاحبة فضل على الأبناء ولها حقوق عليهم، إلا أن عليها واجبات أيضا، وهي من ناحية معرضة للمرض والبلاء والعجز … والموت. فالعلاقة في هذه الحالة متحركة بين الفرد والوطن حتى وإن كانت على سلوك تشوبه الكثير من العاطفة.
ثمة مفهوم ثالث للوطن، خلع عن نفسه القداسة والقرابة معا واتخذ (المعاملة) معيارا لقياس وتثبيت المعادلة بين الفرد والوطن، ما جعل هذا المفهوم للوطن أكثر تطورا واعتدالا وبالتالي عدلا وسلامة. ونحن حين نستحضر مثل هذا الوطن، لا نتخيل شيئا مقدسا أو أُما حبيبة، وإنما، بكل بساطة وطبيعية فإن ما يتمثل أمامنا عنوانه: وطنُ مواطنٍ… وهذه خاصية غربية بجدارة… ولا حاجة هنا لذكر الشواهد عليها، فهي ماثلة للعيان، نسمع عنها كل يوم ونرى.
عودة إلى وطن القداسة. نحن هنا أمام معادلة من أوصافها أنها إلغائية، استعلائية أو حتى مستحيلة. فالوطن فيها يتشكل كذرات في الفضاء، بينما الفرد في الأسفل يكاد عنقه ينقصف ليصيب من الوطن شيئا، ليطلب حقا من حقوقه، بل وأحيانا ليؤدي ما يتوجب عليه أدائه. ذلك لأنه لم يتسن له أن يعرف الوطن حق المعرفة وأن يتعاطى معه بطريقة سليمة وموثوقة، ولم يكن ثمة عقد نافذ بينهما… ولم يكن شهود.
إن الفرد في هذا المكان يعيش ويفنى بطريقة صاخبة، ولكنها كاريكاتورية في الآن ذاته، ذلك لأن صخبه لا يخلف شيئا في الحياة أو من أجلها. إنه يولد ثم يندثر، وما كان يجب أن يكون حياة وعملا بين الضفتين، لن يتعدى أن يغدو فاصلا عرضيا وغبارا تذروه ريح الأرض. وفي السنوات الأخيرة التي شهدها عالمنا العربي، أبرزت هذه المعادلة وجها من أوجه فشلها المميت، حيث أخذت الأوطان التي كانت تسبح في فلك القداسة تتهاوى كالنيازك على رؤوس الأشهاد.
لاختيار روسيا رمزا لوطن القرابة سببان (إن كان لا بد من سَوق الأدلة): معنوي وموضوعي. المعنوي لأني عشت سنوات في هذا البلد وأدعي معرفته عن قرب، والموضوعي لأن روسيا التي تشرق شمسها من آسيا وتغرب في أوروبا، المشدودة بين الظل والصقيع، والموزعة بين رقصة الباليه ودفوف الشامان (المشعوذ الآسيوي)، هذا البلد المترامي في الجغرافيا والتاريخ، قيّض له أن يرابط في منزلة بين منزلتين ويغدو وطنا أرضيا، أمميا في لحظة مركزية من تاريخه المعاصر، وأُموميا في قرارة وعيه ولا وعيه. فالوطن هناك بيت. وليس الدولة ومؤسساتها من يعتني بأهل البيت وإنما روسيا كلها ضرع لأبنائها.
في مكان كهذا يعيش القوم حياة أرضية فيها من كل شأن صنفان: الامتلاء والعوز، الفن والعنف، الحكمة والحماقة، العفة والرذيلة، التعقل والطيش، القوة والرخاوة، التقدم والتقهقر، الشرق والغرب. ويكون ميزان الوطن والفرد على هوى هذه الشؤون المتقابلة.
في ثالث الأثافي يتمثل لنا وطن المعاملة. الوطن الذي يقابله المواطن. كفتا الميزان متكافئتان، فالطرفان يؤثران ويتأثران ببعض. تسقط عن الوطن قداسته وتتحول آصرة القرابة معه إلى ثقافة حياة وحوار رزين بصرف النظر عن النتيجة. وليس من قبيل المفارقة أن مفهوم هذا الوطن يعود بنا إلى معناه البسيط والأولي: حيث الوطن هو الأرض التي نقف عليها مقرون بالحاضر الذي نعيشه، ذلك لأن المعادلة هنا تقف على أسس عقلية وتتحرك على هدي المنطق، وغير خاف على أحد أن العقل والمنطق أبعد ما يكونان عن ميتافيزيقيا القداسة وأشباح العاطفة وأنهما أقرب إلى أرض الواقع وشؤون الحاضر.
* * *
الإنسان يتكرر في صور الأوطان الثلاثة. غرائزه ورغباته، هواجسه تجاه الأمن والرفاهية وحساسيته نحو الظلم والتسلط، كلها تتشابه. ولكن، لا بد أن يهدر الماء عميقا ليغير مجرى النهر… والتاريخ.
*كاتب عماني
[email protected]