القاهرة ـ «القدس العربي»: «دع سمائي فسمائي محرقه، دع قناتي فمياهي مغرِقه، وأحذر الأرض فأرضي صاعقه. هذه أرضي أنا وأبي ضحّى هنا، وأبي قال لنا مزقوا أعداءنا»، كلمات أغنية حفظها الوجدان المصري، سجلت فترة من تاريخ البلاد الحديث، التي لعبت فيها قناة السويس دورا رئيسيا ومحوريا، فهنا الموت سخرة، وهنا مثال فج على التدخل الأجنبي، وهنا أيضا تعود كرامة المصريين بقرار التأميم، ويضحي الآلاف في حروب لتحرير الأرض.
وعليه، فقد اختلفت موجة الرفض الذي شهدتها مصر لمشروع القانون الذي ينص على تأسيس صندوق لهيئة قناة السويس يسمح ببيع وتأجير واستئجار أصول القناة الثابتة والمنقولة، عن أي موجات رفض لبيع أحد أصول الدولة لما تمثله القناة من رمز في وجدان المصريين.
وتمثل قناة السويس رمزا لـ «ثنائية المهانة والكرامة» في وجدان المصريين، حسب أحمد الملا أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة دمياط، والذي قال لـ«القدس العربي»، إن قناة السويس «مثلت في البداية مع حفرها في القرن التاسع عشر، رمزا للمهانة بالنسبة للمصريين، خاصة فيما يتعلق باستخدام المصريين في الحفر بنظام السخرة، ووفاة عشرات الآلاف من المواطنين بسبب ظروف العمل في الصحراء وعدم توفر رعاية طبية».
نظام السخرة
وأضاف: «لم تقتصر رمزية المهانة في الحفر باستخدام نظام السخرة فقط، بل في أنها باتت رمزا للاحتلال الأجنبي والتدخل في شؤون المصريين، باعتبارها كانت سببا رئيسيا في الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، ومحاولات المصريين وسعيهم للتخلص من هذه المهانة».
لكن القناة سريعا ما تحولت «في وجدان المصريين من رمز للمهانة إلى رمز للكرامة، مع واقعة تأميم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قناة السويس عام 1956، وما تبع ذلك من عدوان ثلاثي على مصر شاركت فيه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل».
كما ارتبطت القناة بالحروب التي خاضتها مصر، من احتلال إسرائيل لشبه جزيرة سيناء عام 1967، وتحول شط القناة إلى جبهة حرب لست سنوات، قبل أن تخلد الذاكرة المصرية مشاهد عبور الجنود المصريين للقناة في قوارب مطاطية وعلى جسور عام 1973»، وفقا للأستاذ الجامعي المصري.
ويؤكد الملا أن «مخاوف المصريين من أي تشريعات تسمح للقطاع الخاص بشكل عام والأجانب السيطرة على الفناة، تعيد لأذهانهم مرحلة المهانة التي مثلتها القناة من بداية حفرها حتى تأميمها عام 1956».
وتحدث عن إصدار الخديوي محمد سعيد باشا، فرمان الامتياز الأول، الذي منح للفرنسي فرديناند دليسبس، امتياز حفر قناة السويس، وما تلاه من فرمانات وصولا إلى عملية الحفر التي بدأت في 25 أبريل/ نيسان 1859 بمشاركة الآلاف من العمال المصريين في ظروف إنسانية بالغة القسوة.
ونص الفرمان على أن مدة الامتياز تسع وتسعون سنة تبدأ من تاريخ افتتاح القناة، وأن الحكومة المصرية تحصل سنوياً على 15 ٪ من صافي أرباح الشركة.
وتأسست الشركة العالمية لقناة السويس البحرية في 15 ديسمبر/ كانون الأول 1858، برأس مال قدره 200 مليون فرنك (8 ملايين جنيه)، مقسم على 400,000 سهم قيمة كل منها 500 فرنك، خصصت الشركة لكل دولة من الدول عددا معينا منها، وكان نصيب مصر 92136 سهما، ونصيب إنكلترا والولايات المتحدة والنمسا وروسيا 85506 أسهم، غير أن هذه الدول رفضت رفضا باتا الاشتراك في الاكتتاب، فاضطرت مصر إزاء رفضها، إلى استدانة 28 مليون فرنك (1120000 جنيه) بفائدة باهظة لشراء نصيبها بناء على إلحاح دليسبس، ورغبة منها في تعضيد المشروع وإنجاحه، وبذلك أصبح مجموع ما تملكه مصر من الأسهم 177642 سهما قيمتها 89 مليون فرنك تقريبا (3560000 جنيه) أي ما يقرب من نصف رأس مال الشركة.
الحفر
وفي 25 أبريل/ نيسان 1859، بدأ العمل في حفر قناة السويس، وتلاقت مياه البحرين الأبيض والأحمر في 18 أغسطس/ آب 1869، وانتهت أعمال هذا المشروع الضخم الذي استغرق تنفيذه عشر سنوات، وبلغت تكاليفه 433 مليون فرانك (17320000 جنيه)، أي ضعف المبلغ الذي كان مقدرا لإنجازه، لتظهر إلى النور قناة السويس «شريان الخير لمصر والعالم»، التي وصفها عالم الجغرافيا الراحل جمال حمدان بأنها «نبض مصر». وافتتحت القناة في حفل أسطوري في17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1869، بحضور ستة آلاف مدعو في مقدمتهم الأمبراطورة أوجينىي زوجة أمبراطور فرنسا نابليون الثالث، فضلا عن إمبراطور النمسا، وملك المجر.
مصر تبيع أسهمها
مخاوف المصريين من عودة سيطرة الأجانب على قناة السويس، بعد موافقة البرلمان بشكل مبدئي على قانون يسمح ببيع وتأجير أصول القناة، أعاد لأذهانهم قيام الخديوي اسماعيل في 15 فبراير/ شباط 1875، ببيع 176602 سهم مقابل مبلغ 3.976.580 جنيها إنكليزيا، وهذه الأسهم المصرية المباعة كانت تمثل 44٪ من مجموع الأسهم وكان تعطي مصر حق الحصول على 31 ٪ من مجموع ربح الشركة.
وتنازلت الحكومة في 17 أبريل/ نيسان 1880 للبنك العقاري الفرنسي عن حقها في الحصول على 15٪ من ربح الشركة مقابل 22 مليون فرنك، وبذلك أصبحت الشركة تحت السيطرة المالية لفرنسا وإنكلترا، ليعقب ذلك احتلال بريطانيا لمصر عام 1882.
وظلت القناة تحت السيطرة البريطانية الفرنسية، حتى أعلن الرئيس جمال عبد الناصر في خطابه التاريخي في مدينة الإسكندرية في 26 يوليو/ تموز 1956 قرار تأميم قناة السويس.
وجاء قرار التأميم ردا مباشرا على مواقف الدول الكبرى والبنك الدولي من مسألة تمويل السد العالي، إلا أن القرار، في حقيقة الأمر، كان كاشفاً وليس منشئا للحقوق المصرية وهو يرتبط ارتباطا وثيقا بالسيادة المصرية على كامل التراب الوطني بعد ثورة 23 يوليو.
وبعد قرار التأميم تعرضت مصر لهجمة شرسة بدأت بمحاولة خنق الاقتصاد المصري عندما انسحب المرشدون والفنيون الأجانب الذين يعملون في القناة لتعطيل الملاحة وعرقلة دولاب العمل ومن ثم إحراج الدولة المصرية بعدم قدرة أبنائها على إدارة القناة، وتوالت الأحداث بعد ذلك وانتهت بشن العدوان الثلاثى على مصر والذي استمر من 31 أكتوبر/ تشرين الأول إلى 22 ديسمبر/ كانون الأول1956، واستؤنفت الملاحة في القناة 29 مارس/ آذار 1957 بعد انتشال السفن الغارقة فيها وتطهيرها.
وتوقفت الملاحة في القناة مرة أخرى بسبب العدوان الإسرائيلي في 5 يونيو/ حزيران عام 1967 واستمر الوضع كذلك حتى أعلن الرئيس الراحل أنور السادات في خطابه التاريخي في مجلس الشعب 29 مارس/ آذار 1975، عودة الملاحة للقناة، لتعود القناة لاستقبال السفن في 5 يونيو/ حزيران 1975.