ثورات الربيع بين العدالة.. والبدائل الثورية

حجم الخط
0

ربما لم يخطر ببال أكثر المحللين السياسيين براعة، حتى فترة قريبة، أن ما كان يعد سبقاً ثورياً في كل من تونس ومصر، باعتبارهما حالتين ثوريتين اختصرتا مراحل دموية حمراء من دماء الشعوب، كانتا في الحقيقة مجرد استهلالات ثورية خجولة لم تلبث أن تلاشت عند أول صدام حقيقي مع صخرة استبداد صلدة ضربت جذورها بقوة في مختلف مؤسسات الدولة على مدى عقود طويلة، مستغلة غيبوبة ثورية عانت منها الشعوب ردحاً طويلاً من الزمن حين قبلت بمعادلة الأمن مقابل الحرية، وهي المعادلة التي فرضتها الأنظمة العربية بأدوات قمعية مختلفة.
كشفت منظومة الدولة العميقة في كلا الدولتين عن تكتيكات بارعة في الالتفاف على مكتسبات الثورة، وكان ما ظنه البعض عدالة ثورية ناجزة في الأيام الأولى لسقوط الرموز هو مجرد عدالة وهمية ناشزة، التفت على المكتسبات الثورية كأخطبوط متوحش بأذرع أمنية وإعلامية وثقافية ودينية. وكانت النتيجة أن أعاد نظام مبارك إنتاج نفسه من جديد ولكن بصورة أكثر دموية، وبشراهة غير عادية للقتل والولوغ في الدماء، تثبيتاً لأركان الدولة البوليسية وحفاظاً على شبكة مصالح اقتصادية تديرها عقلية مافيا عسكرية، تتآمر وتحبك الدسائس للحفاظ على مصالحها. وفي تونس استنفرت القوى المحسوبة على جيوب النظام السابق قدراتها ومارست ضغوطاً هائلة على أول تجربة ديمقراطية من منتجات الثورة، وكانت النتيجة تنازلات كبيرة تحت شعار الشراكة السياسية، تلاه وصول مخلفات النظام السابق مرة أخرى إلى مواضع صنع القرار بعد فوزهم في الانتخابات البرلمانية.
تقوم الثورات لتنشئ وضعاً جديداً لا مكان فيه لرموز النظام السابق على اعتبار أن التخلص منهم كان هدفاً ثورياً ومسوغاً لاندلاع الثورة من الأساس، إلا أن تعطيل العدالة الانتقالية، والاستعاضة عنها بعدالة شكلية، وعدم تفعيل قانون العزل السياسي، مكن حزباً مثل «نداء تونس»، وهو النسخة المحدثة من حزب بن علي «حزب التجمع الدستوري الديمقراطي» من العودة إلى الحياة السياسية مرة أخرى وبقواعد اللعبة الديمقراطية! فكانت النتيجة على هذا النحو، وهو أمر طبيعي في أي عملية ديمقراطية إذا كانت مدخلاتها غير نظيفة من جانب، ولم تصل الشعوب إلى حالة من الوعي الناضج للمفاضلة بين الخيارات السياسية المطروحة من جانب آخر، فضلاً عن أن الأنظمة المستبدة صنعت قاعدة احتياطية كبيرة من المنتفعين، أصبحوا ظهيراً لها في أي استحقاق انتخابي. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل يجري استنساخ التجربة ذاتها لتطبيقها في الانتخابات الرئاسية التونسية لتصل إلى الحكم مومياء بعثت من مرقدها تارة أخرى! ويبدو أن ما فشلت في إنجازه الثورة المضادة في مصر من تنصيب أحمد شفيق بغطاء ديمقراطي دون انقلاب عسكري دموي واضح المعالم، هو ما نجحت فيه الدولة العميقة في تونس نظراً لأن الحساسية الجيوسياسية فيها أقل من مصر، وهو ما أعطى الدولة العميقة في تونس نفساً أطول من نظيرتها في مصر، فكان لها ما أرادت.
تميزت منظومة الطغيان العربية بمناعة كبيرة في التعامل مع ثورات الشعوب السلمية فأغلقت الباب أمام أي طرق غير عنيفة للتغيير، وهو ما يضع الشعوب أمام خيارات صعبة تتمثل في الحل العسكري والعنيف لخلع الطغيان من جذوره بضريبة حمراء من الدماء والتضحيات. ذلك أن خيبات الأمل المتلاحقة لدى الشباب الثوري المندفع، الذي لم يلمس عدالة ثورية ناجزة، كونت لديه فهماً مفاده أن الثورة الأكثر عنفاً هي الأقرب لنيل الحرية والكرامة، وبهذا الفهم يصبح السبق الثوري من نصيب الثورة السورية والليبية بخلاف الحالتين التونسية والمصرية.
ولكن فهمنا لمصطلح «عسكرة الثورات» ينطوي في كثير من الأحيان على قدر كبير من التسطيح والسذاجة، إذ إن عسكرة الثورات ليس مجرد قرار بحمل السلاح يتخذه فصيل سياسي ذو قاعدة شعبية عريضة، ولكنه تدفق طبيعي لحالة غليان أوصدت أمامها كل الطرق السلمية للتغيير، فوصلت إلى حالة «القابلية للانفجار». هذه الحالة العنيفة يصل إليها الوعي الجمعي الثوري في لحظة حرجة تنعدم معها الخيارات الناعمة، فإذا أزفت ساعتها لا تبقي ولا تذر. كما أن الثورات العنيفة لن تحافظ على ديمومتها ولن تحقق نتيجة واضحة إذا لم تتوفر لها الحواضن الاجتماعية التي تضمن بقاء جذوتها مشتعلة، ولعل أبرز مثالين على سوء التقدير في استخدام الحل العسكري دون نضوج الظرف السياسي المناسب هما أحداث حماة في سوريا الثمانينيات، والجزائر مطلع التسعينيات. وختاماً فإن أجل الثورة العنيفة رهن بمقدار التضييق على الخيارات الثورية السلمية، فلا ينبغي لأحد أن يستقدم أجلها حتى لا تموت في مهدها.

أبوبكر قرط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية