أهلاً وسهلاً بكم في عالم الثورات، هذه المرة مع ثورة بلا نار ولا رصاص ولا دماء ولا حتى دخان! ثورة جنودها فتية وفتيات صغار شاؤوا التعبير عن ما يختزنونه في صدورهم من قدرات ورغبات شملت، الرقص والتمثيل والنكات والطهي، واللعب والرياضة، وحتى السياسة، وصولاً إلى ما يصنفه البعض بسطحية الطرح والفكر.
إنها وبكل بساطة ثورة «التكاتكة» التي يعبر عنها رواد «التيك توك» البرنامج الذي نقل عالم الإعلام الاجتماعي، عبر أفلام لا تزيد عن دقيقة لكل منها، إلى حضور كبير وواسع لأفكار الجميع، دونما قيود أو حدود أو مقصات للرقباء، وبصورة جعلت المغمور مشهوراً، والمقهور مدفوعاً بجمهور عريض مكون في معظمه من فتية يافعين، يشجعونه أو حتى ينقلونه إلى عالم الشهرة.
هذا المقال ليس ترويجاً لتقنية على حساب أخرى، وإنما محاولة لقراءة العوامل التي نقلت عالم الشباب إلى التعبير الصريح عن الذات، في إطار انفجار استعراضي لما يملكه كل شخص من مهارات واهتمامات، أو ربما ثورة على واقع كورونا، ونتاجات الربيع العربي، والفقر والجهل، والسياسة وغياب الديمقراطية وانعدام مساحات الحريات والتعبير عن الذات، ليصبح «التيك توك» متنفساً، وبرلماناً، ومهرجاناً وكرنفالاً واحتفالاً، وكل شيء في تطبيق واحد تستضيفه هواتف البشر على اختلافها، في فضاء غير منظم، لا يخلو أيضاً بل أحياناً، وفي رأي البعض، من السخافة والتفاهة والتنمر والإزعاج. فكيف أصبح هذا البرنامج مغناطيساً لفتية العالم بأسره؟
تماماً كما التلكس والفاكس والقرص المرن، والهاتف الثابت والسنترال اليدوي، بدأ نجم العديد من تقنيات الإعلام الاجتماعي بالأفول، أو بالانحسار لتقتصر بعض تطبيقاته على فئات عمرية محددة، ليس لتراجع ما تقدمه من خدمات، أو لموقف ما وإنما لولادة تقنيات أخرى، باتت اكثر جذباً وتأثيراً في حياة بعض الشرائح ومنها التيك توك. ورغم قناعتنا بأن الإعلام الاجتماعي إنما يؤثر في كل الشرائح المجتمعية، إلا أن التفاعل الأكبر معه هو الأعلى اليوم وسط شريحة الأطفال، بحيث يرتبط بعاملين رئيسيين: أولهما لزيادة اهتمامهم بهذه التكنولوجيا، وارتفاع ذلك عالمياً من نسبة 6% قبل عقد من الزمن إلى حوالي 66%، وفق بعض المعطيات، جراء قدراتهم العقلية، التي تؤهلهم لتجاوز المعيقات التقنية، والوصول إلى عالم التقانة بسرعة كبيرة، وثانيهما تنامي قدرة هؤلاء على التأثير في قرارات أهلهم مستخدمين سلاح العاطفة والاستعطاف، وسلاح الإلحاح والإصرار، وسلاح المقارنة والمفاضلة بينهم وبين أقرانهم وأصحابهم ومعارفهم، وهو ما يساهم في التأثير في الأهل باتجاه توفير سبل التقانة المرجوة أسوة بهؤلاء الأقارب والأقران. وقد توسع إطار الاهتمام بالتكنولوجيا لأغراض تعليمية خلال عصر كورونا وبمعدلات عالمية فلكية، وسط هذه الشريحة بطرق وإمكانيات مختلفة، لكنه لم يقف عندها إطلاقاً، بل تعداها للدخول في مساحات اجتماعية أكبر، باتت توظف الحجر الصحي والإغلاق الشامل عبر الإبحار في الفضاء الإلكتروني لقضاء أمورها، وإتمام أعمالها وحتى ملء الفائض من الوقت. ومع هذا الواقع تبدل مسار الحياة إذ لم يعد الآباء يقررون ما الذي يرتديه ابناؤهم، أو يتناولونه من أطعمة، أو حتى ما يرتادونه من منصات مختلفة، بل بات الأبناء هم أصحاب الدراية والقرار، ربما لكون التكنولوجيا وحجم اطلاعهم عليها قد وضعتهم في مكانة فكرية سمحت لهم بتجاوز التأثير التقليدي في صناعة القرار أسرياً، وإحداث انقلاب تاريخي ملحوظ، خاصة في المجتمعات المحافظة، التي طالما أعطت لذاتها أحقية الآباء بإصدار القرارات الاعتيادية.
حجم الدراية الرقمية لدى شريحة الأطفال بات الأكبر في عصر العولمة، وقدرتهم الإبداعية باتت أعلى في عوالم التيك توك وغيره من التطبيقات
وقد تنامى تأثير الأبناء في التفاوض مع والديهم حول الاستحواذ على الأجهزة الأكثر تقدماً، وترك القديم للآباء، بحيث يتجه نصف عدد الأهالي عالمياً إلى الاستسلام أمام رغبات أبنائهم في هذا المجال. ورغم القيود التي تفرضها بعض منصات الإعلام الاجتماعي على أعمار مستخدميها، إلا أنها حقيقة تغض الطرف عن هذا الأمر، بينما يقوم الأطفال بتحريف تواريخ ميلادهم ليتواءم ذلك والشروط التي تفرضها الشركات على ارتيادهم لخدماتها، أي عبر إعطاء تواريخ ميلاد غير حقيقية تتجاوز العمر القانوني الذي تحدده تلك الشركات. لذلك رأينا انتقالاً كبيراً لأطفالنا بين منصات الإعلام الاجتماعي، من الفيسبوك واليوتيوب إلى السناب تشات والانستغرام وصولاً إلى التيك توك، ليصبح الأخير بمثابة التطبيق الأسرع انتشاراً اليوم. ورغم تحفظنا على مبدأ غياب الرقابة على المحتوى وانفتاح أطفالنا على عالم الإعلام الاجتماعي، بكل ما له وما عليه، فإن الإدمان عليه بات حقيقة لا يمكن تجاوزها، لذا فمن غير المستغرب أن نرى تنامياً لقدرة الأطفال على التأثير في صناعة القرار الأسري، والضغط على الأهل باتجاه اقتناء أجهزة جديدة بتكاليف مادية متزايدة، طمعاً في التباهي بما هو متاح من أجهزة وتوظيفها لخدمة إدمانهم الرقمي .بل إن الكثير من الأهل يذهبون نحو الاعتقاد بأن أبناءهم عباقرة في تعاملهم مع التكنولوجيا في عمر مبكر، يصل أحياناً إلى ما هو أقل من عامين فقط من العمر. لأولئك نقول إن أبناءكم ليسوا عباقرة، بل إنهم يتعرضون إلى كم كبير من الفضول الذي يحفز لديهم حب الاستكشاف والتسلية، للوصول إلى الألعاب الرقمية على اختلافها ومنصات الإعلام الاجتماعي، بصورة وضعت الكثير من الأهل أمام صراع يومي مع ابنائهم في معركة المفاضلة بين تلك الألعاب والمنصات، ومتابعة الابناء لحصصهم المدرسية الرقمية، التي فرضتها كورونا، حتى ذهبت بعض المدارس إلى فرض رقابة على شاشات الطلبة لضمان عدم ذهابهم خلال الحصة الصفية باتجاه ارتياد مواقع التواصل الاجتماعي، أو المحادثات الرقمية مع أقرانهم وأقاربهم، أو إهدار الوقت في عالم الألعاب الإلكترونية. وعليه فإن حجم الدراية الرقمية لدى شريحة الأطفال بات الأكبر في عصر العولمة، بل إن قدرتهم الإبداعية باتت أعلى فأعلى في عوالم التيك توك وغيره من التطبيقات، لذلك فإن توظيف خبراتهم ربما يؤهلهم لتوفير خدماتهم للمجتمع في مراحل عمرية أصغر من أعمار اعتدنا عليها. لهذا فإن ثورة «التكاتكة» ربما تساهم في تغيير إنماط اجتماعية تقليدية اعتدنا عليها وهو ما سيساهم حتماً في تعزيز المظاهر المرتبطة بعالم العولمة، وما صاحبه من تطورات مختلفة، بل إن الساسة سيجدون أنفسهم مرغمين على استرضاء أطفال مجتمعاتهم بحثاً عن ضمان تأثير إيجابي لهم، والمساعدة في تكوين وتوجيه المزاج العام. لذا فإن «العالم تحت رحمة الأطفال» ربما يكون أحد أهم محاور ثورة «التكاتكة»!
كاتب فلسطيني
[email protected]