مشهد داخلي يمتاز بالفخامة وتبدو عليه ملامح الثراء التي تبدو بدرجات مختلفة على المشاركين فيه، حتى إن كانت بعض الملامح متواضعة، فإنها تظل بعيدة عن الأحداث خارج الجدار أو على بعد عدة كيلومترات، وربما أقل.
ورغم مشاهد الثراء الواضحة، فإن الحديث يتم عن المعاناة والفقر وتحمل الأسية من أجل الوصول، هكذا يقول الخطاب الداخلي بدون أن يفهم منه أن المراد هو تبرير وجبات الطعام المتواضعة التي تقدم للضيوف، أو الإقامة والخدمات المقبولة، فكل تلك الصور غائبة عن حالة المشهد الداخلي وتفاصيله، ولكنها فقط كلمات من أجل التسويق الخارجي لهؤلاء الذين يعانون حقا، ويتحملون فعلا ويعرفون معنى الأسية حقا.
الصور الداخلية مكررة، قاعة كبرى ما، وجوه مبتسمة لا تعرف الجوع وتحمّل الأسية عادة، ولا تعاني من نقص “البطاطس”التي تحولت إلى منافس أساسي، على المواطن أن يضعه في مقارنة بين أن يكون صاحب دولة “ذات قيمة”، أو دولة يهتم مواطنوها بتوفر البطاطس في الأسواق من عدمه، وفقا لخطاب رأس الدولة، الذي كان يكرر وعوده عن مصر التي سوف نراها غدا، فجاء الغد محملا بالكثير من المعاناة الممتدة، ومازال الوعد ممتدا أيضا في صورة وعود أخرى، بالغاء العلاوة السنوية المقررة للموظفين، مضافا إليها ارتفاع الأسعار في السلع والخدمات، وتقليص الدعم.
نعم جاءت الصور الأخيرة من”منتدى شباب العالم”الذي انعقد في مدينة شرم الشيخ، والذي مثّل فرصة متكررة للسخرية، ولكنه بما أثاره من غضب عراقي وسوري، أضيف إلى الكثير مما جاء في خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي المهم، الذي ألقاه في الندوة التثقيفية الـ29 التي نظمتها إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة بعنوان “أكتوبر- تواصل الأجيال” في 11 أكتوبر الماضي، التي ظلت حاضرة لدى البعض بمقولة “ثورة يناير علاج خاطئ لتشخيص خاطئ”، بكل ما حملته العبارة من تفسيرات، وما دشنته علانية وبشكل واضح من قطيعة بين خطاب السلطة ومقولات احترام ثورة 25 يناير، مقابل فعل السلطة ومحاولة الاقتصاص من يناير وما تمثله بوصفها فعلا قابلا للتكرار.
وفي سياق منتدى الشباب أثارت تصريحات السيسي، التي أكد فيها على أن العراق دولة لها ماض قديم، وأنها لن تعود كما كانت، الكثير من الانتقادات العراقية، والمهم في هذا السياق أنه قال، موجها كلامه إلى الشاب العراقي المشارك في المنتدى: “يا عبد الله أنت لم تشاهد العراق، أنا شاهدته، كان دولة قوية سياسيا واقتصاديا وعسكريا، إذا اختزلت العراق في سن عبد الله ومن يشابهه في سنه من شباب العراق، وبدأوا يتحركون لهد الدولة على أمل أن تبنى ثانية، أقول إن الدولة التي تهد لا ترجع ثانية وهذه تجربتنا”.
وأهمية الخطاب هنا، وبعيدا عن تجربتنا التي يشير إليها، أن السيسي نقل خطاب أنه أكبر، وعاش مرحلة ما قبل 1967 وما بعدها، التي تحدث عنها من قبل في ما يخص الحالة المصرية، بما فيها كلمته في الندوة التثقيفية، التي أكد فيها انه عاش المرحلة التي نعيشها ونعرفها والمرحلة التي سبقتها والتي نتحدث عنها ولا يعرفها الجميع. في الحالة المصرية استخدم السيسي هذه الوضعية، التي اعتبرها خاصة ومميزة وكأنه الوحيد الذي يعبر عنها أو الأجدر بالتعبير عنها، للتأكيد على أنه شاهد على مساوئ مرحلة 1967، ومميزات السلام الذي تأسس في ما بعد، عندما أكد على طرح مصر بوصفها ضامنا لتسوية فلسطينية لم يحددها وبضمانات لم يعرفها، وتاليا من أجل تشبيه مرحلة المعركة والمعاناة المصاحبة لهزيمة 1967 بمعركة محاربة الإرهاب.
ما حدث في منتدى الشباب، أن السيسي قدّم نفسه بوصفه صاحب تلك الوضعية الخاصة عربيا، وأنه الأجدر بأن يقول كيف كان العراق، وكيف أصبح، وما هو الأفضل له، وكيف يتجه مستقبله، وهو الأمر الذي سرعان ما أنتج حالة من النقد والاعتراض على وسائل التواصل الاجتماعي، التي أكدت بطرق متعددة أن “العراق بخير” سواء وجّه الخطاب للرئيس أو لمصر عموما. تلك الانتقادات كان من شأنها، وكما هو الحال عربيا، أن تنتقد حكم السيسي نفسه وما نتج عنه أو صاحبه من أزمات اقتصادية، وتراجع سعر الجنيه مقابل الدولار، مقارنة بما كان قبل أن يتولى السلطة، وغيرها من المظاهر السلبية لحكمه، وهو الأمر الذي تكرر على هامش حديثه عن سوريا أيضا، وما تعرض له من انتقادات سورية رسمية وسخرية مصرية.
ترسيخ فكرة كراهية الثورة، لتستقر فكرة ترسيخ السلطة وهي تقدم بوصفها ضرورة من أجل ترسيخ الدولة
في الحالة السورية تحدث السيسي عن حاجة سورية إلى 300 مليار دولار أو أكثر من أجل الإعمار، وتابع “مش أنت اللي كسرتها، مش أنت اللي خربتها، أصلحلك أنا ليه؟ لا أنا ما أصلحش، أنا أصلح بلدي، وأبني بلدي” مضيفا “أنتو اللي بتعملوا في بلادكو كده، أنتم اللي بتخربوا بلادكم”. وبالإضافة إلى السخرية من فكرة “الإصلاح” والدفع، دعا عضو في مجلس الشعب السوري إلى استدعاء القائم بالأعمال المصري في دمشق عبر وزارة الخارجية لتفسير الكلام الذي صدر من “رئيس بلد يضربه الإرهاب كما يحدث في سورية”،
لكن النقطة الأساسية أو الرسالة المهمة التي تتجاوز ظاهر تلك التصريحات وحالة الغضب التي يتم التعامل معها دبلوماسيا، هو التأكيد على مساوئ الثورة بشكل عام، وتكرار فكرة التدمير المستمر والخسارة الدائمة الناتجة عن الثورات، من أجل وضع ثورة 25 يناير في جملة مفيدة مع الهدم والمعاناة المستمرة غير القابلة للإصلاح.
وصل النظام المصري إلى حالة تستوجب، كما اتضح في الندوة التثقيفية بصورة واضحة، القطيعة مع ثورة 25 يناير وفكرة الثورات عموما من أجل مواجهة الفشل والأزمات، حتى إن كان الأمر لا يتجاوز الاعتراف بالقيمة والمكانة النظرية للثورة، على ما يبدو، لدرجة تجاوز حذر استخدام مقولة “أحسن من دول الجوار”، أو مجرد الإشارة إلى تلك الدول بالاسم وإثارة حالة من الغضب والنقد، إلى تقديم رؤيته عن الهدم في هذه الدول، والتأكيد على عدم قابلية الأوضاع للإصلاح مخالفا، على الأقل الأعراف الدبلوماسية، ومثيرا عداوات غير مفترضة وغير مقبولة، ومستبعدا دروس التاريخ التي قامت فيها دول بعد دمار ومعاناة، لمجرد أن تلك الدول التي يركّز عليها تقدم حالة هدم بفعل الثورة الشعبية من وجهة نظره، وتكرار الإشارة إليها من شأنه، كما يتصور، دعم وجهة نظره في ربط مفهوم وفعل الثورة بالسلبيات والمعاناة.
كان من الضروري لهذا أن يضع، وكما يتم في التعامل مع السلبيات بشكل متكرر عبر إعادة التعريف، حالة سلبية مثل غياب سلعة غذائية مهمة مثل البطاطس في مساحة خارج السلبيات، من خلال إعادة صياغة التحدي. وبدلا من تقديم الأمر بوصفه فشلا من الإنماط المتكررة في إدارة السلطة، أو التأكيد على محاسبة المسؤول عن ما حدث ومواجهة الأزمة، بدلا من كل تلك الطرق المفترضة في عالم الشفافية والمحاسبة، تحولت البطاطس إلى سلعة منافسة للدولة المدنية، وأصبح على المواطن أن يدرك أنه في عمليه اختيار وضعها السيسي في قوله “عايزين تبنوا بلادكم وتبقوا دولة ذات قيمة وإلا هندور على البطاطس؟” بدون أن يوضح العلاقة الحقيقية بين الحصول على سلعة وتأسيس وطن؟ ودون أن يوضح لماذا على المواطن أن يختار وإلى متى؟ وإن كان المواطن عليه أن يتحمل المعاناة وشد الحزام وارتفاع الأسعار وتخفيض الدعم. إن كان على المواطن أن يتحمل كل هذا ومعه ارتفاع أسعار سلع أساسية مثل الفول والبطاطس.. متى يحصل المواطن على المقابل؟ متى تتحقق تلك الدولة الموعودة؟ وهل هي أجمل حقا للمواطن العادي؟ أم لمن يملك؟ لا أحد يجيب عن تلك التساؤلات لأن الواقع يجيب عنها بالكثير، بالإضافة إلى أن الوعود متكررة، واللحظة التي يتحدث فيها عن المعاناة والحاجة إلى أموال من أجل إنشاء فصول دراسية جديدة تأتي في مشهد منتدى الشباب الفخم، وعلى هامش العاصمة الجديدة وتزايد القروض والسفريات، ولا تمول إلا من جيب المواطن العادي وعبر إلغاء العلاوة السنوية وغيرها؟
تبدو القصة وكأنها ذات أجزاء منفصلة، وقد يكون الأمر حقيقة، ولكنه مشهد متراكم هدفه الأساسي محاربة فكرة الثورة عبر تشويه ثورة يناير، التي لم تطالب بالبطاطس بدورها، وتشويه فكرة الثورات الشعبية عموما عبر التركيز على معاناة دول الجوار وتحويلها إلى نتاج للثورات الشعبية دون غيرها، واستبعاد إمكانية النهوض، وتصور أن وضع مصر أفضل من غيرها من أجل ترسيخ تلك الفكرة.
ومع ترسيخ فكرة كراهية الثورة، تستقر فكرة ترسيخ السلطة وهي تقدم بوصفها ضرورة من أجل ترسيخ الدولة، وتلك الدولة لا تتوقف أمام مجرد بعض السلع، لأن مواطنيها عليهم تحمل الأسية المعرّفة هنا بالجوع والمعاناة من أجل “دولة ذات قيمة” أو مجرد الدولة. يتجاوز حديث القاعات التي تعبر عن الثراء، أن الحالة المصرية لا تعرف حدود المعاناة، وشد الحزام هو العامل المشترك بين جميع النظم الحاكمة، سواء من أجل الكهرباء أو الماء أو البطاطس، وربما يمكن في النهاية بعد سنوات من شد الحزام عمل صينية بطاطس بدون معاناة، كما قد تردد السخرية المصرية العابرة للسلطة والأحزمة وخطاب البطاطس والكهرباء.
كاتبة مصرية