جائزة نوبل لشعب نيوزيلندا ورئيسة وزرائه

انضممت لحملة جمع التواقيع المليونية التي تطالب ورثة ألفريد نوبل منح جائزة نوبل للسلام لرئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أردرن، حيث وقع نحو 20 ألف شخص على عريضتين إلكترونيتين، للمطالبة بمنح الجائزة لرئيسة وزراء نيوزيلندا، على خلفية تعاملها مع مجزرة المسجدين في مدينة كرايست تشيرش (كنيسة المسيح) يوم الجمعة 15 مارس/آذار 2019 التي ارتكبها سفاح أسترالي، برينتون تارانت، ذهب ضحيتها خمسون وجرح خمسون آخرون من الأبرياء، الذين قتلوا بدم بارد فقط لكونهم مسلمين.
كم أتمنى أن تمنح الجائزة إن منحت، مناصفة بين الشعب النيوزيلندي ورئيسة وزرائه، تكريما لموقف كل منهما إزاء مأساة إنسانية حلت فجأة بهذا البلد المسالم البعيد عن الدنيا كلها وأقرب بلد إليه أستراليا نفسها، بلد السفاح، التي تبعد عنه أكثر من 2000 كلم.
لقد كانت رئيسة الوزراء صورة صادقة عن شعب حضاري مهذب منفتح خلوق، انتخب بإرادته الحرة الواعية سيدة من نسيجه، وأخلاقها من أخلاقه، وهمومها من همومه وثقافتها المنفتحة من ثقافته مطبقة القول الشهير، الذي نسب بغير حق للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، ونردده بأشكال مختلفة ومفاده «كيفما تكونوا يولى عليكم». هذا القول يصدق أكثر على الدول الديمقراطية، التي تملك إرادة حرة يتنافس فيها المرشحون أمام جماهيرهم التي تعرفهم جيدا، وتعرف أخلاقهم وطبائعهم ومصادر مداخيلهم وممتلكاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية والأسرية وتعرف مؤهلاتهم العلمية وخبراتهم العملية، لذلك يأتي القائد صورة عن شعبه، وإن اكتشف الشعب أن قائدهم مخادع كذاب وفاسد، يقوم بطرده من المنصب بسهولة، إذ إن هناك في هذه الدول نظاما للمساءلة فوق الجميع، ولا أحد يفلت من عقاب إذا ما تمت إدانته بانتهاك للدستور أو القانون.
أردرن والنموذج الفذ للقيادة الحقيقية
منذ وقوع المجزرة نزلت رئيسة الوزراء، جاسيندا أردرن، إلى الميدان فورا واتخذت إجراءات سريعة وحاسمة، ووقفت مع الجالية المسلمة وأهالي الضحايا تخفف عنهم وتواسي جراحهم، وتبكي معهم، وتحترم تقاليدهم فتلبس غطاء الرأس احتراما، وتضم النساء إلى صدرها. وظلت معهم منذ اللحظة الأولى إلى ساعة تأبين الضحايا ودفنهم، وأعدت لهم جنازة مهيبة تليق بهم، غاب عنها الزعماء العرب والمسلمين، ولكنهم هرعوا للسير في جنازة ضحايا العملية الإرهابية ضد مجلة «تشارلي إيبدو» في باريس عام 2015. وحضرت مراسم التأبين لضحايا المسجدين، مرتدية حجاباً اسود حدادا على الضحايا، وتضامنا مع أسرهم. فكان لهذه المواقف أكبر الأثر في التخفيف من هول الفاجعة على أهالي الضحايا، وعلى الجالية المسلمة عموما. ولو طلب من الجالية المسلمة في نيوزيلندا أن يحملوا السلاح دفاعا عن هذا البلد، لا شك أنهم سيتقدمون الصفوف كمواطنين من الدرجة الأولى، لا فرق بينهم وبين المواطنين الآخرين، من دون الالتفات إلى الأصول والمنابت والعقائد والمذاهب والألوان والألسنة. اتخذت أردرن بعد المذبحة قرارين شجاعين لم يسبقها إليهما أحد من منظومة الدول الغربية التي تحاول أن تلتف على الحقائق في مثل هذه الحوادث:
أولا: لقد أطلقت وصف الإرهابي على المجرم منذ اللحظة الأولى، لأن ما قام به عمل إرهابي مباشر متعمد ضد المسلمين في البلاد، وهو وصف لم نسمع دولة غربية أطلقته على من يقتل المسلمين، فهذا الوصف مخصص حصريا للمسلمين الذين يرتكبون مثل هذا النوع من الجرائم، حتى لو أن الشخص أعلن عن تعمد ارتكاب فعل القتل ضد المسلمين فسيجد النظام الغربي المنحاز مبررات لإعطاء القاتل صفات أخرى غير الإرهاب.

جاسيندا أردرن قدمت النموذج الراقي في التعامل مع أزمة أصابت جزءا من أبناء شعبها، ولم تنظر إليهم على أنهم غرباء ومهاجرون

ثانيا: أعلنت أنها لن تتوانى عن تعديل قوانين حيازة السلاح، حيث أعلنت أن هناك ثغرات فيها استغلت لتنفيذ مجزرة المسجدين، وقد تستغل ثانية. وقالت إن من يملكون الأسلحة لأغراض شرعية في نيوزيلندا سيدعمون تعديل هذه القوانين. وبالفعل طرح موضوع تعديل قانون حيازة السلاح الجديد، الذي يضيق المساحة على عملية شراء السلاح. وفي جلسة يوم 10 إبريل/نيسان 2019، أي قبل أقل من شهر من حدوث المذبحة طرح القانون الجديد على البرلمان فأيده 119 عضوا من بين 120 نائبا جميع الأعضاء باستثناء عضو واحد هو النائب المحافظ ديفيد سيمور، الذي قال إن الإجراءات المتعلقة به متسرعة. وهذا القرار شبه الإجماعي دليل آخر على قناعة نواب الشعب بحكمة رئيسة وزراء البلاد، وصوابية رأيها ووحدة البلاد خلفها.
إذن لم يكن الشعب النيوزيلندي أقل وطنية من رئيسة وزرائه. فقد شارك الشعب في غالبيته العظمى مشاعر رئيسة الوزراء، والتزم يوم الجنازة مثلها بالحداد الشامل على أرواح ضحايا المسجدين، ورفع صوت الأذان في شتى أنحاء البلاد، كما بثت شبكات التلفزيون والإذاعة مراسم الجنازة المهيبة، فيما توافد الآلاف من كل أنحاء البلاد تتقدمهم رئيسة الوزراء إلى مسجد النور بمدينة كرايس تشيرش لتأبين ضحايا الحادث الإرهابي والمجزرة. كما انطلق العديد من المسيرات تحمل يافطات تقول: «حياة المهاجرين تهمنا» و»اللاجئون مرحب بهم هنا». كم في هذه الشعارات من دروس للدول التي أوصدت حدودها أمام اللاجئين الهاربين من جحيم الحروب والنزاعات.
جائزة نوبل والخوف من التسييس
إذن تستحق رئيسة وزراء نيوزيلندا جائزة نوبل للسلام، ويستحق شعب نيوزيلندا أن يشاركها هذا الفوز. وهذا قرار طبيعي ومنطقي فرئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أردرن، قدمت النموذج الراقي في التعامل مع أزمة أصابت جزءا من أبناء شعبها، ولم تنظر إليهم على أنهم غرباء ومهاجرون، بل جزء طبيعي من نسيج المجتمع. وسنكون أكثر سعادة لو تقاسمت الجائزة مع الشعب النيوزيلندي المتمثل في البرلمان الذي تصرّف أيضا بمنتهى المسؤولية والرقي. لكن الخوف أن يتم تسييس الجائزة كما حدث في الماضي، حيث تخضع الجائزة أحيانا لضغوطات فتمنح لمن لا يستحق وتمنع عمن يستحق. فمثلا ظل اسم قائد الهند العظيم المهاتما غاندي مرشحا لخمس سنوات متتالية من دون أن يمنح الجائزة وبعد مقتله عام 1948 حاول بعض أعضاء اللجنة منحها له بعد وفاته إلا أن الغالبية اعترضت على ذلك بحجة أن المرشح ليس على قيد الحياة، بينما لم تجد اللجنة حرجا في أن تمنحها للأمين العام للأمم المتحدة الأسبق داغ همرشولد بعد مقتله عام 1961 في الكونغو. كما أن منح الجائزة لبعض مجرمي الحرب الذين أعيد تأهليهم مثل مناحيم بيغن عام 1978 مناصفة مع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات يثير كثيرا من الانتقاد. ولا ننسى اللغط الكبير الذي أثير حول منح الجائزة مثالثة بين عرفات وشريكيه شمعون بيرز وإسحق رابين في وهم ما سمي بـ»سلام الشجعان» بين الفلسطينيين والإسرائيليين. كما منحت الجائزة عام 1973 لهنري كيسنجر، وزير خارجية الولايات المتحدة، ومفاوضه الفيتنامي لو دوك ثو، الذي رفض استلام الجائزة احتجاجا على الدمار الذي ألحقته الولايات المتحدة ببلاده. ثم منحت الجائزة لزعيم روحي عليه خلاف كبير وهو الدالي لاما عام 1989، الزعيم الروحي لمنطقة التبت في الصين، كما منحت لوليش فاليزا عام 1983 رئيس جمعية التضامن البولندية التي تحدت الحكم الشيوعي في بولندا، لكن علينا ألا ننسى أيضا أن الجائزة منحت لمن يستحقها أحيانا مثل نيلسون مانديلا وديزموند توتو والأم تيريزا وجيمي كارتر ومارتن لوثر كنغ وأوسكار أرياس وتوكل كرمان وغيرهم. لكن أكثر الجوائز التي أثارت جدلا في العالم هي تلك التي منحت للرئيس باراك أوباما عام 2009 بعد عشرة شهور من دخوله البيت الأبيض، إذ قد تكون المرة الأولى التي منحت الجائزة بناء على النوايا، وليس على العمل أو قطع شوط ولو بسيط في برنامج قائم على تغيير الصراع إلى حالة من السلام أو المصالحة التاريخية. فهل ستنتصر لجنة نوبل على الضغوطات الدولية ونراها تمنح الجائزة للسيدة جاسيندا؟
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مرداسي لزهر:

    يقتلون ويؤلمون ونعطيهم جائزة نوبل
    رغم صدقهم,

  2. يقول عائشة، المغرب:

    بالفعل يستحق هذا المجتمع المسالم برئاسة سياسيين شرفاء وعقلاء هذه الجائزة،ـ بل قد يعيدون لها شيئا من المعنى الذي افتقدته منذ أن منحت لأوباما وكيسينجر وبيغن وكرمان وغيرهم…

  3. يقول علي حسين أبو طالب / السويد:

    ” جائزة نوبل لشعب نيوزيلندا ورئيسة وزرائه ” إهـ .
    نعم هي تستحق ذلك و شعبها , و أكثر من ذلك تستحق هي
    أن تُطلق جائزة نوبل سنوية باسمها أي باسم “جائزة جاسيندا أردرن للتسامح و الإنسانية ”
    تمنح لها أولا ثم سنوياً لمن يسير على سيرتها النبيلة .

  4. يقول RAFEEK KAMEL:

    ولى الشرف العظيم ان اعلن انا ومنذ اللحظات الاولى انضمامى لحملة جمع التواقيع التي تطالب منح جائزة نوبل للسلام لرئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أردرن، تلك السيدة العظيمة التى لقنت القتلة العنصريون درسا فى الكرامة والاخلاق الحميدة …والتى قالت بوضوح لمسلمى نيوزلاندا خاصة وكل المسلمين عامة : اطمنوا ……….انتم مش لوحدكم……………..

إشترك في قائمتنا البريدية