لو قدر لك أن تستقل طائرة صغيرة وتحلق فوق الجزائر من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق لأصبت بدهشة عظيمة، لبروز ثلاثة صروح كبرى، واحدة في وهران أقصى الغرب، وثانية في العاصمة وسط البلاد، وثالثة في مدينة عنابة أقصى الشرق. وإن كنت لا تعرف هوية البلاد لظننت أنك تجتاز بلداً أوروبيا مسيحيا، ليس له علاقة بالعرب والمسلمين والفضاء المغاربي. فالمباني الثلاثة التي أتحدث عنها، وقد حظيت بزيارتها جميعا، هي كاتدرائيات كاثوليكية عظيمة تقنع كل من يشاهد أيا منها أن هذه بلاد المذهب الكاثوليكي المسيحي. والصروح الثلاثة هي كاتدرائية وحصن سانتا كروز في وهران وكاتدرائية (أو باسيلكا) نوتردام الافريقية في العاصمة، وباسيلكا القديس أوغسطين في عنابة.
أما سانتا كروز في وهران فهي قلعة حربية وكاتدرائية في الوقت نفسه، شيدها الإسبان في القرن السادس عشر، ثم استولى عليها الفرنسيون، وتقع على قمة جبل المرجاجو العظيمة في وهران تطل من أعلى قمة الجبل على المدينة الواقعة على شاطئ البحر، تستظل بتمثال ضخم لسيدة النجاة. وقد استغرق إنشاء الحصن والكنيسة 60 عاما، بعد أن احتل الإسبان شواطئ المتوسط من طنجة إلى طرابلس بعد طرد العرب المسلمين من آخر معاقلهم في غرناطة عام 1493. وبعد أن عادت البلاد لأهلها وهويتها الأصيلة، تم ترميم المكان وافتتح في عهد الرئيس بوتفليقة يوم 7 ديسمبر 2018 بحضور الكاردينال أنجيلو بيشو، ممثلا عن البابا فرنسيس وأطلق على المكان «ساحة العيش معا بسلام».
حرب الذاكرة بين الجزائر وفرنسا مستمرة ولن تتوقف إلا بعد أن تستعيد الجزائر كل ما سرقته فرنسا من ثروات البلاد وجماجم الشهداء، وتعتذر علناً عن جرائمها
أما كاتدرائية (أو باسيليكا) نوتردام «سيدتنا الافريقية» فقد شيدها الفرنسيون فوق أعلى جبل في العاصمة الجزائرية محاكاة لـ»نوتردام» في باريس. غير أن الموقع في العاصمة لا مثيل له، حيث يطل على خليج البحر من علو، وحول المبنى ساحة عظيمة زينت من الداخل بلمسات أندلسية، ومن الخارج يظهر فن العمارة البيزنطية والرومانية. وكانت وربما لغاية الآن أكبر كاتدرائية في افريقيا، وتم تشييدها عام 1872 واستغرق بناؤها 14 سنة، حيث كان الفرنسيون يظنون أنهم باقون هنا إلى الأبد. وأما الكاتدرائية الثالثة والأكثر فخامة فهي «باسيليكا القديس أوغسطين» التي بنيت على تل جميل قرب مدينة عنابة قرب آثار صومعة القديس أوغسطين المتوفى سنة 430 بعد الميلاد، الذي صقل بكتاباته الفكر اللاهوتي المسيحي، خاصة كتابه «مدينة الله». والمبنى الفخم الذي جلبت حجارته من فرنسا يطل على البحر من جهة وعلى المدينة من جهة أخرى. وهو طراز فريد من العمارة البيزنطية والرومانية والعربية ويضم مكتبة ومتحفا يحفظ فيه عظم من عظام القديس أوغسطين. وقد بدأ العمل لإنشاء الباسيليكا عام 1881 واستغرق بناؤها 19 سنة، وأعيد ترميمها عام 1947 وجددت في عهد الاستقلال عام 2004 وهي مفتوحة على مدار العام يؤمها الزوار والمصلون من القنصليات الأجنبية المعتمدة في عنابة. هناك كنائس مسيحية وكنس يهودية في معظم المدن الجزائرية الرئيسية، التي بناها الاستعمار الفرنسي لخدمة المستوطنين، الذين كانوا يسيطرون على البلاد ويمتصون خيراتها ويديرون شؤونها ويفرضون لغتهم وعاداتهم وثقافتهم، محاولين لأكثر من قرن أن يمحو شخصية الجزائر العربية الإسلامية. الوضع يختلف كثيرا في الجارتين المغرب وتونس. فلا تجد مثل هذه المعالم الكبرى التي أقامها الاستعمار الفرنسي. صحيح أنه نشر اللغة الفرنسية وجعلها لغة الإدارة والوظائف والتعليم والاتصالات، إلا أن الوضع في الجزائر مختلف تماما، ففي تونس والمغرب كان الهدف الاستعماري «التأثير» بينما في الجزائر كان الهدف «الاجتثاث» لأن فرنسا رسميا تعاملت مع الجزائر كأنها جزء منها وأنها باقية إلى الأبد، ليس فقط بقوة الجيش والسلاح، بل بسيطرة المستوطنين أو «الأقدام السوداء» (كما هو حال المستوطنين في فلسطين المحتلة) المتوغلين في عروق البلاد والمتطرفين لحد محاولتهم اغتيال الرئيس شارل ديغول عندما طرح فكرة «الجزائر للجزائريين» عام 1958.
من هذه الخلفية نفهم إقامة صرح إسلامي ضخم ليكون ثالث أكبر مسجد في العالم بعد الحرمين الشريفين وأكبر مساجد القارة الافريقية. بوشر تشييده عام 2012 وتم افتتاح المصلى في أكتوبر 2020 أثناء وباء كورونا، ثم افتتحه الرئيس عبد المجيد تبون بشكل كامل يوم 25 فبراير الماضي بحضور دولي واسع. وراء هذا المجمع الكبير رسالة بليغة للجانب الآخر من البحر المتوسط، وللدولة التي حاولت أن تطمس هوية البلاد الثقافية والدينية واللغوية، وليس منافسة مع أي دولة أخرى أشادت مساجد ضخمة. الرسالة موجهة تحديدا للدولة التي استعمرت الجزائر 132 سنة، وعملت بكل إمكانياتها على تغيير هوية البلاد وثقافتها ودينها. وليس صدفة أن أقيم المجمع الكبير في مكان إقامة الكاردينال الكاثوليكي لافيجري، في دير خصص للتبشير عبر مؤسسة «الآباء البيض» وسميت المنطقة باسمه، وغير اسمها بعد الاستقلال إلى «المحمدية». هذا الصرح يقول لفرنسا «شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب»، كما قال الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله. تمسك الشعب الجزائري بهويته ودينه ولغته وحافظ عليها جميعا خلال سنوات الاستعمار الاستيطاني. وكانت الكتاتيب والمساجد تدرس اللغة العربية والقرآن الكريم سراً في كثير من الأحيان. لقد لعب علماء الدين الذين تلقوا علومهم في الزيتونة والقرويين والأزهر والمدينة المنورة والأموي دوراً نضالياً لا مثيل له في مقارعة محاولات الفرنسة والتغريب والتهميش للهوية. وكان لإنشاء جمعية العلماء المسلمين عام 1931 على أيدي الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ محمد البشير الإبراهيمي في مدينة قسنطينة، وانتشار كتاتيبها في العاصمة وتلمسان ومنطقة القبائل، دور عظيم في حماية الشخصية الوطنية العربية المسلمة. كان شعار الجمعية «الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا». وأصدرت الجمعية عددا من المجلات، التي كان تتعرض للإغلاق بعد انتشارها مثل «المنتقد» و»الشهاب» و»الشريعة» و»السنة» و»البصائر» وغير ذلك.
أما الرسالة الثانية التي يمثلها الجامع، فهي للمتطرفين الذين حاولوا أن يخطفوا الجزائر ويحولوها إلى أفغانستان ثانية. الجزائر ستظل محافظة على هويتها الإسلامية المالكية المعتدلة. لقد عاشت الجزائر عشرية سوداء، كما تسمى في الجزائر (1991-2000)، هلك فيها مئات الألوف، استهدف فيها الكتاب والصحافيون والمغنون والمسيحيون والرياضيون والنساء والشرطة والناس العاديون. وبعد أن تجاوزت البلاد تلك المحنة وتجاوزت سنوات الجمود الطويلة، جاء الوقت للانطلاق بعد الحراك العظيم الذي قاده شباب وشابات الجزائر بطريقة سلمية وحضارية وأدت إلى انتخابات تنافسية وعودة البومدينية التي تعمل على نهضة الجزائر وتحسين ظروف المعيشة للشعب وتثبيت موقع لائق بالجزائر عبر بناء علاقات دولية متوازنة وإيجابية. أما الرسالة الثالثة التي يجسدها الجامع الأعظم، كما يسمونه بحق، هي كونه ليس مسجدا للصلاة فقط، بل هو مؤسسة كبرى تعليمية ثقافية دينية علمية، حيث يضم المجمع 12 مبنى، بالإضافة إلى قاعتي صلاة في الداخل وصحن في الخارج تتسعان لنحو 120 ألف مصل. يشمل المجمع قاعات للمحاضرات، ومتحفا للفن والتاريخ الإسلامي والجزائري ومكتبة تتضمن مليون كتاب، ومدرسة عليا للعلوم الإسلامية لطلاب الدكتوراه، ومساكن للأساتذة والطلاب ومركز أبحاث واستوديو للبث التلفزيوني في آخر طبقات المنارة التي يبلغ ارتفاعها 265 مترا مكونة من 43 طابقاً. كما أضيف للمجمع مطار للطائرات المروحية وحدائق ومسارات جميلة لتنزه العائلات.
استخدم في الجامع المحصن من الزلازل آخر ما في التكنولوجيا الحديثة من تقنيات، فالثريا المركزية ووزنها تسعة أطنان ونصف الطن في قاعة الصلاة الكبرى غير مرتبطة بالكهرباء بتاتاً وتضاء بالطاقة الشمسية والمنبر يمكن أن ينزل إلى الطابق الأرضي إذا كانت المحاضرة للنساء، ومياه الأمطار تجمع ويتم تدويرها ومنبره العظيم يشبه منبر صلاح الدين بالمسجد الأقصى وبه 6000 متر من الآيات والأحاديث النبوية المزخرفة بالخط الكوفي والثلث والأندلسي. لقد حظيت بزيارة استطلاعية شاملة للجامع في نوفمبر 2022. وقد شرح لي أحد المتطوعين الشباب تفاصيل هذا المجمع المبهر. وسعدت أنه سمي جامعاً وليس مسجداً، فكلمة جامع أوسع بكثير من كلمة مسجد، فالأولى تعني مكانا للصلاة والسجود. والثانية تعني مكانا للصلاة واجتماع المسلمين وبحث شؤونهم وتقديم حلقات العلم في كل المجالات كما كان الحال في جامع قرطبة الكبير وعقبة بن نافع في القيروان والأزهر في القاهرة والقرويين في فاس والأموي في الشام. وقد أعجبني في زيارة للهند أهم مساجد العاصمة نيودلهي حيث سمي «المسجد الجامع». حرب الذاكرة بين الجزائر وفرنسا مستمرة ولن تتوقف إلا بعد أن تستعيد الجزائر كل ما سرقته فرنسا من ثروات البلاد وجماجم الشهداء، وتعتذر علناً عن جرائمها في الجزائر وتقدم التعويضات المستحقة، وذلك اليوم ليس ببعيد.
كاتب فلسطيني