قد يبدو الحديث عن الكلاسيكيّة ضربًا من ضروبِ الضّياع بالنّسبةِ للمذاهب الأُخرى وعلى وجهِ الخصوص الرُّومانتيكيّة إلا أن هذا لا يعني بأن الرُّومانتيكيّة غير معنيّةٍ بالكتابةِ عن المذاهب الثّانية المُغايرة والعكس صحيح، لكنهُ يغدو تعبير المرء الرُّومانتيكيّ مُخاتِلًا للقارئ المُتمعّن في تكوينات النّفس البشريّة وليس بعيدًا عن سبرِ أغوارها، فهو يعرف كيف الرُّومانتيكيّ أو أيّ مذهبٍ آخرَ يرفض التكلّم والإسهاب بثناءٍ عن المُختلف عنهُ وإن خصَّ المبادئ المُعارضة لهُ بالمديح فإما مُتمّلق غير واعٍ كفاية بمدرستهِ المُتبعة وإما ينتمي إلى مَن هُم يؤمنون بأن لكُلِّ فردٍ طبيعة وتركيب مُعيّن، يميلُ على أساسِها وعلى أساسِ ما تمليه عليهِ الرّوح إلى مذاهبَ مُحدّدة، هذا الأخير ممّن يفكرُ بهذهِ الطّريقة السّليمة السّديدة في غايةِ القلّة وعلى وشكِ التّلاشي من الثّقافةِ اليوم.
هذهِ الثّقافةُ الرّكيكةُ المُعوّلة على عقدتِها فحسب، الّتي لَمْ تنتجُ سوى التّعصب، الزّيف والصّراع والأنقاض، لا تسمو إلى الحوار، الفهم المُؤطّر بالتّأمّل والانفتاح الحقيقيّ، المُتقبّل للمُقابل والفاهم رغباته واتجاهاته كُلّيًا، رُبَّما هذا النّوع يحتاجُ إلى طبيعةٍ حسّاسة شاعرة، تطمحُ إلى التّعمق، الهدوء والمعرفة الصّادقة إلى جانبِ الحُرّية، المُكتنفة للتنوّعات والتّعدّدات بلا ريب، وحدها التّنوعات الأدبيَّة النّاجمة عن أشخاصٍ يرومونَ إلى الخلق الجديد، الابتكار والابتعاد عن التّقليد وإحياء القديم مَن تطور الآداب وتنقلها إلى ضفّةٍ لا تقتربُ من ضفّةِ التّخلف الرّكود والتّكرار الرّتيب..
يظنُّ القارىءُ لهذهِ المُقدّمة بأني مُخادعةٌ رومانتيكيّة تموّه حقدها على المذهب الكلاسيكيّ ولا يكشفها شخصٌ إلا بوساطةِ عباراتها الرّافضة للمألوف والتّرداد وإحياء الغابر البالي، وجميع الجمل من أمثالِ هكذا عبارات هي سماتُ الكلاسيكيين ولا مجالَ لتجاوزها وإنكارِها أو التّخفيف من ثيماتِها.
نعم رُبَّما أبدو مُراوغةً وضدّ الكلاسيكيّة لكني حريصةٌ على حُبِّ المذاهب السّابقة للرُومانتيكيّة واللاحقة بِها، إني مُدركةٌ لمسألةِ طبيعة الأفراد وطرائقهم وعاداتهم الّتي تختلفُ عن طباعِنا ومُمارساتِنا ولأنّ الأدب مرآةُ المُجتمع وكُتَّابه، وليد عبقريتهم وتجاربهم فهو يفضي إلى حركاتٍ ومدارس تكملُ بعضها بعضًا، إذ تسدّ ثغرات ما سبقها أو تضيف شيئًا غفلَ عنهُ القديم ولَمْ يأخذهُ على محملِ الجدّ أو لَمْ يلبِ الحاجات الفكريّة، الإنسانيّة والاجتماعيّة كافّةً، المذهب إذن نشاط بشريّ يطمحُ إلى نهضةٍ لافتة أقرب إلى الإنجاز التّنافسيّ، ليست الصّدفةُ مَن قادت أحدٌ إليهِ وضافرت الجهود المُشتركة للقيامِ بهِ، بل عوامل مُجتمعيّة فرديّة دعتهم الرّغبة المُلحة لتحقيقها وبلورتِها بهدفِ الوصول إلى نوعٍ من التّكامل النّسبيّ، يرضي الظّروف المُحيطة آنذاك ويغيّر الميدان الإبداعيّ ولو قليلًا كما مرجو وقريب من الآمال الثّائرة بوجهِ الانحطاط العلميّ والتّفكك الاجتماعيّ المُرتبط بأشباحِ الظّلام.
لا يُخفى على القُرّاء نزوع الكلاسيكيّة إلى احتذاء تراث الأسلاف الأدبيّ المُتوارى حديثًا، إنَّما جليٌّ من أعمال مُعتنقيها المُقيدة ومبادئهم فضلًا عن ما ظهرَ في أفكارِهم العقليّة وفصلهم بينَ لُغةِ الشِّعر والنّثر كما لا يُخفى أنها تتبيّنُ من مقياسِها الوحيد للإبداع الفنّي، تغيبُ التّناقضاتُ والخصومات حولَ نزعتِها الاتّباعيّة ومُصطلحها النّمطيّ عندَ الأُدباء والنقّاد قطعًا.
مُصطلح الكلاسيكيّة هو مفهومٌ يجنّحُ إلى الدّقةِ، المتانة والقوّة الّتي لا تبرح عن إنتاجاتِهم المُسَيَّجة بالشّروط حسب صِيغتها المبنية، ذات القواعد المُحكَمة والشّوائب الزّائلة، حتّى تمادوا في حقائقهم العامّة وطغت فخامتهم وبرجوازيتهم على الآخرين.
يعدّ المسرحيّ جان راسين من أهمّ أعلام المذهب الكلاسيكيّ وأبهى أنموذجًا على الإطلاق، امتازَ بتراجيديتهِ الفرنسيّة وبرجوازيتهِ المُميزة، فلا شكّ أنّهُ عاكفٌ كالعبقريين المُماثلين لهُ على الأدب، إذ عشقهُ وولعَ بأجناسهِ، حيث نظمَ منذُ نعومةِ أظافره باللُّغةِ اللاتينيّة والفرنسيّة.
غالبًا ما حظيَّ بفرصٍ مع نوابغَ أدبيّة من طرازهِ الرّفيع وهذا أسهمَ في اطّلاعهِ وأسعفهُ في كسبِ جولات مرموقة داخل الوسط الأدبيّ بفضلِ ظروفه الدّافعة بهِ إليهم، كانَ أبرزهم لافونتين وموليير وبذلكَ الوهج البيئيّ تمّت لهُ الشّهرة منذُ شبابهِ اليانع المُرهف، أيضًا أفضت بهِ الطّبقة الفخمة الماكث فيها بما تحويه من معاني الفضيلة إلى الاِعتزازِ بشخصهِ وشعوره الشّديد وانعكس ذلكَ في مسرحياتهِ السّاميّة المُؤلّفة من قبله، نالَ محتواها الطّارد للضعف البشريّ والباعث على تطهيرِ النّفس من الإعجاب النقديّ والتّصفيق ما لا يُعقل، من أشهر تراجيدياته(أندروماك)و(فيدر) إن فيدر أو فايدرا تتكون من خمس فصول مكتوبة بأبياتٍ من الشِّعرِ عام ١٦٧٧ في باريس.
«ما أثقل هذهِ الغلائل عليَّ/ ما أثقل هذهِ الزّينة الباطلة!/ ما أقبح اليد الّتي صفّفت هذهِ الخصلات/ وعقدت شَعريّ على جبينيّ!/ كُلّ شيّ يضنيني ويؤذيني، وكُلّ شيء يعملُ على تعذيبي./كرهتُ حياتي، واستبشعتُ حُبّي/ كُلّ ما أرجوه هو أن تحترمي موتي الّذي يقترب/ فلا تعذبيني بالملام الظّالم/ ولا تحاولي نجدتي، فذلكَ لا يُجدي/ إنني بقيّة نارٍ ستخبو وشيكًا.» هكذا تقولُ فيدر بشِعريّةٍ طاغية أثناء حوار شَجني مع اينون.(١)
لَمْ يقتصر شِعرُ راسين على مقاطع المسرحيات قط، بل نستنتج أنهُ كتبَ الشِّعرَ وأنشدَ أجمل وأعذب القصائد بمواظبةٍ، كونه شاعرًا من شُعراء البلاط الكبار، فإذا كانَ الكاتبُ شاعرًا في جوهرهِ فهذا يسوعُ لماذا بدا لي راسين لأوِّلِ وهلةٍ رومانسيًّا؛ لعلَّنِي أقولُ لما عليهِ من كتاباتٍ مأساوية فلسفيّة وروحٍ كئيبة رقيقة، تُعاني من المآسي وتلتقطُ مشاهدَ الحزن والعنف بماهرةٍ ورؤى ثاقبة، فكرتُ بأنهُ كلاسيكيٌّ يخشى الاعتراف برومانتيكيته، ويخاتِل من أجلِ اخفاء الحقيقة، هُنا على ما أعتقد سبب اِنقيادي إلى راسين واِختياري لهُ دونِ الأعلام الكثيرة المُعاصرة والمُعاشة في حقبتهِ؛ لأنّهُ شاعرٌ فعليٌّ كما يجب أن يكونَ الشّاعر، لا يحقق الموصافات والخصائص الّتي لديه سوى الرُّومانتيكيين، المفضوحينَ ذاتيًّا العارينَ نفسيًّا.
لَمْ يكن شعوريّ الناجم فجأةً عنهُ اعتباطيًّا أو قاصرًا، إن جان راسين نشأَ في عصرٍ كلاسيكيٍّ بامتياز، يمثّل القرن السّابع عشر ذروةَ الكلاسيكيين؛ لذا ينحصرُ الشّاعرُ-راسين- بينه وبينَ تياراتٍ هزيلة غير فاعلةٍ، كذلك يلعبُ عصرهُ دورًا بطيئًا من حيث ازدهار جميع المذاهب، لَمْ يشهد ولادة الرُّومانتيكيّة إلا لاحقًا، فلا نستطيع الوثوق بكلاسيكيّةِ راسين الجادّة وهميًّا لو أسفرَ عن العصر بزوغ مذهب رومانتيكيّ، يستند إلى تنظيراتٍ وأدبٍ راقٍ وفُسحة في الاِختيارات المُنتقاة.
كتبَ كثيرون: إن أدب راسين اتَّصفَ بالرُّومانسيّةِ، على الرّغم من أنهُ قد يُصنَّف ضمن الأدب الكلاسيكيّ، وهيمنت العاطفة في أحيانٍ كثيرة على أدبهِ، بينما احتلَّ العقل مكانةً أقلّ، فكانت مصطلحاتٌ مثل: الأخلاق، الحُبّ، الوطن والشّرف ترتبطُ بصورةٍ فائقة في كتاباتهِ بالحُب والعواطف.
عليهِ أكادُ أجزم بتوقعاتي عن راسين واضطرابه المذهبيّ، الّذي من الصّعوبةِ أن يحددَ الفردُ انتماءاته وتوجهاته باستثناء الشّاعر اللّماح ذو الحدّس الرّهيب.
الكاتب الحاذق لا يحتاجُ إلى الدّفاع عن مذهبهِ في كُلِّ مرَّةٍ يكتبُ فيها، عليهِ التّوقف والانصراف إلى استعراض مناهج ومذاهب أُخرى وترك الأمر للقارئ الفطن، رَيثما ما يقرأ سيعرفُ أن كانَ هذا المذهب الغارق في عاديتهِ صالحًا للاستمرار، التبنّي، والإيمان بهِ أو لا، خطوةٌ واحدة مثل هذهِ الخطوة تغني عن مستودعٍ من الشّحنات والطّاقات المُعتمدة لإكمالِ المسيرة المدحيّة الرنّانة للمذهب الخاصّ، الّذي أنقذَ صاحبهُ ويجهل صاحب المذهب الآخر دور مذهب الأوّل وسبب انجرافه لهُ، فيلومهُ على ما لا يُلام!
تستمرُّ إلى الآن فكرة أن يتهاوى المرء كي يكشفَ مدى إخلاصه لاِتجاهه وصدقه معهُ وكم هو جاحدٌ للاتجاهات المُتخذة منهُ كيانًا غير مرئيٍ، ثُمَّ ينسى أنها دوامةٌ تؤدي إلى الهاويةِ، ينجو منها فقط المُلم من كُلِّ اتجاهٍ بخِصالٍ تتناسب وإياه، كذلك يسلم منها المُجرّد من الأحقاد الأدبيَّة النّاقمة على جزءٍ يشكّلُ فجوةً في الوعي إن تفاداهُ امرؤٌ واكتفى بجوانبَ ضئيلةٍ لا يعوّل عليها للامتلاء في الرحلةِ الأدبيّة المديدة. ليسَ بالضّرورةِ الانتماء دومًا إلى شيءٍ ما، ليسَ بالضّرورةِ أن يحضرَ الخوف حينما يغيب الانتماء، ولا داعي للعدَاء حينَ نمضي في محطةٍ واحدةٍ ونقرّر نفي المحطات العابرة الّتي تفصلنا عنها مسافات طويلة لا جدوى أو عزاءً منها إن صارَ القصد إليها في إحدى الأيَّام.
كاتبة عراقية
هامشٌ:
(١) مقطع فيدر تمّت ترجمتهُ من قبل أدونيس وهو خلاصةٌ مُقتطعةٌ بتصرّفي عندَ القراءةِ لتوضيحَ مزايا المسرحيّة، الّذي سعى إلى طرحِها مع مسرحيةِ المأساة الطّيبة في كتابٍ واحدٍ من تقديم رولان بارت، تمتعت كلا المسرحيتين بلُغةٍ شاعريّة ثمينة وفريدة، بعيدة عن الضّجرِ، قريبة من الحزن والسَّلوان في الوقتِ نفسه.