طرابلس-»القدس العربي»: شامخة وسط الصحراء الليبية العريقة، ورغم الإهمال والنسيان والتهميش تظل رافعة قامتها، تقاوم آثار الزمن والجو والعبث، معبرة عن حضارة قديمة، وأناس مروا عليها ووقفوا وطبعوا تاريخهم على أسطحها، لتتداوله الألسن على مدار العصور والأزمان.
الجبال والهضاب الصحراوية في جنوب ليبيا كانت وما زالت تشكل إضافة عظيمة لمظاهر أخرى للجمال الصحراوي، ومن أهم وأشهر المناطق الجبلية منطقة جبال أكاكوس الواقعة في الجزء الجنوبي الغربي من البلاد بالقرب من الحدود الليبية الجزائرية .
سلسلة جبال أكاكوس الصخرية الليبية والتي تعتبر من أبرز معالم ليبيا المهملة، تقع في الجنوب الليبي، وترتبط مع بلدة العوينات ومدينة غات، على بعد 1400 كم جنوب العاصمة طرابلس، وتمتد من الجزائر غربا إلى شمال النيجر شرقا.
حضارة وتاريخ
أكاكوس صنفت من قبل منظمة التربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) عام 1985 ضمن قائمة مواقع التراث العالمي الخمسة في ليبيا (صبراتة – شحات – غدامس – لبدة) لتكون أحد 981 موقعا في العالم تعرف بقيمتها العالمية الاستثنائية، وتشتهر بآلاف اللوحات والمنحوتات التي تعود إلى ما قبل 14 ألف عام.
تاريخ هذه المرتفعات الصخرية، التي تتكون في غالبيتها من صخور بركانية صماء شديدة الصلابة تتخلّلها كثبان رملية، تعود إلى ما قبل العصر الجرماني، كما تضم أكاكوس في تشكيلها الصخري آلاف الرسومات على جدرانها والتي تنقل للمواطنين المعاصرين لهذا الزمن ما عايشته الحضارة القديمة، وما طرأ على البلدة من تغييرات وتعديلات طالت الحيوان والنبات، بالإضافة إلى تقاليد وعادات الشعوب المتنوعة والتي توالت على هذه المنطقة على مر العصور والأزمان.
منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «يونسكو» قالت في وقت سابق على موقعها الإلكتروني إن «أكاكوس تحتوي على بعض المناظر الأكثر استثنائية في العالم، وهي من العجائب الطبيعية الفريدة».
توجد في أكاكوس مجموعة مختلفة من المناظر الطبيعية، من الرياح الرملية الملونة إلى الأقواس الصخرية والأحجار الضخمة إلى الوديان، ومن أبرز المواقع في المنطقة قوس افازاجار وقوس تن خلجة. ورغم كون المنطقة من أشد المناطق القاحلة في الصحراء الكبرى إلا أنه يوجد بها بعض النباتات مثل نبات الكالوتروبيس.
وقد ظلت هذه المنطقة ولفترة طويلة من الزمن مجهولة للعالم الخارجي وتقتصر زيارتها على بعض البعثات العلمية الأجنبية والمحلية، ذلك أن المنطقة نائية وبعيدة عن التجمعات السكانية، وتقع ضمن نطاق صحراوي جاف، بالإضافة إلى وعورة الطرق التي تؤدي إليها.
منحوتات ونقوش عظيمة
في أكاكوس تنتشر اللوحات الصخرية والنقوش في أنماط مختلفة، وبأشكال متعددة ومتميزة ومختلفة، فمنها ما يصور مشاهد من الحياة اليومية أو مناظر من الصيد بالطرق القديمة، ومنها ما يخلد بعض الرقصات والطقوس، ومنها ما يصور الحيوانات. ويشمل الموقع جانبا من عرق مرزق أو ما يسمى أدهان مرزق، الّذي حفظ آثار مراحل مختلفة من العصر الحجري القديم.
كما شملت هذه النقوش والحفريات تعبيرات عن التغير الذي طرأ في الحضارات قديما في القاطنين بالمنطقة، والنباتات الموجودة فيها، والطقس، وحتى على صعيد الحيوانات المختلفة والتي اشتهرت في هذه المنطقة الحضارية التي مر عليها أقوام كثر وضع كل منهم بصمته المختلفة .
يرى علماء الحفريات أن القطع التي تم العثور عليها تشبه الفن الصخري المتواجد في تاسيلي ناجر، السلسلة الجبلية التي تقع بولاية إليزي في الجنوب الشرقي للجزائر، حيث يبرز دور التغييرات المناخية في تغيير الغطاء النباتي والحيواني في المنطقة وتغيير نمط الحياة لدى الشعوب المحلية التي تواجدت قديما هناك، وبالتالي تغيير أساليب ومضامين الآثار الفنية المتوارثة والتي تؤرخ لكل مرحلة من العصور القديمة.
وان قررت في يوم زيارة هذه المنطقة فستجد بمجرد التوغّل لنحو ستين كيلومترا في القطاع الأوسط من سلسلة الجبال صخرةً منتصبةً أمامك يزيد ارتفاعها عن الخمسين متراً على شكل كائن بشري ذي جسم كبير ورأس متوسط الحجم، ولكن بدون أطراف، وقد أطلق على هذه الصخرة اسم أضاد، وهو اسم أمازيغي يعني في العربية الإصبع، والمتأمل لهذه الصخرة يجدها قطعة فنية غايةً في الجمال قامت بنحتها الريح مستخدمة في ذلك حبات الرمل الصغيرة.
ومع الاستمرار في التوغّل في مسالك الصحراء والجبالُ تطل برؤوسها يميناً ويساراً ًيقع نظرك على رسوم نقشت على جدران بعض الجبال والكهوف يرجع تاريخها إلى عشرة آلاف سنة مضت، وهذه النقوش تجسّد الحياة اليومية لسكان هذه المناطق، فبعضها يصور رحلة لصيد حيوانات الماموث والأبقار الوحشية، والبعض الآخر يصوّر معارك طاحنة نشبت بين سكان تلك المناطق.
المومياء القديمة
في عام 1958 تم العثور على مومياء في جبال أكاكوس جنوب غرب ليبيا يبلغ عمرها نحو 5600 عام، وقد أثار هذا الاكتشاف جدلا واسعا واهتماما بالغا في ذات الوقت لكون هذه المومياء المكتشفة سابقة حتى لما وجد في مصر، وعصر التحنيط المعروف فيها .
حيث أن تاريخ المومياء يسبق بنحو 1500 عام زمن التحنيط المسجل في الحضارة المصرية القديمة الذي ترجع بداياته إلى 2250 قبل الميلاد، ما دفع العلماء إلى إعادة النظر في الاعتقاد الذي كان سائدا بأن التحنيط في القارة الأفريقية بدأ في مصر، والدفع بفرضية جديدة ترجح أن يكون مصدره إحدى الحضارات السابقة المجهولة التي نشأت في المنطقة المعروفة الآن بليبيا على مدى 20000 عام.
مومياء «وان موهى جاج» أو المومياء السوداء، عثرت عليها بعثة آثار إيطالية برئاسة فابريزيو موري عام 1958 أثناء التنقيب في كهف صخري صغير يقع في وادي تشوينت في سلسلة جبال أكاكوس جنوب مدينة غات الليبية القريبة من الحدود الجزائرية، وهذه المومياء الفريدة المحفوظة الآن بمتحف السرايا الحمراء بالعاصمة طرابلس تعود لطفل صغير أسمر البشرة، يقدر عمره بعامين ونصف العام، لُفت جثته بعناية في جلد ظبي، وقد اتخذت وضع الجنين، ونزعت أحشاؤها وغُلفت بأعشاب برية بغرض حمايتها من التعفن والتحلل.
تم اكتشاف منقوشات لتماسيح وزراف وأبقار وماعز وفيلة على بعد 30 متر تقريبا من مكان اكتشاف المومياء، وتم العثور على موقد الآلهة وهو عبارة عن حلقة دائرية يبلغ قطرها 3 متر محاطة بالصخور الصغيرة وفي وسطها يوجد مكان النار التي كانوا يلقون الحيوانات فيها وعلى بعد أمتار قليلة وجدوا مذبح هذه الحيوانات .
ولم تكن هذه المومياء الفريدة الوحيدة المكتشفة في ليبيا بل عقبها اكتشفت أخريات، ففي عام 2008تم اكتشاف مومياء طولها 2.25 متر من قبل بعثة آثار ليبية بريطانية مشتركة عندما كانت البعثة تقوم بأعمال البحث والتنقيب في أوباري وادي الحياة وذلك على سفوح جبل زنككرا جنوب مدينة جرمه .
التخريب والعبث
رغم كون جبال أكاكوس من أهم الآثار، والرموز العريقة للحضارات القديمة حول العالم إلا أن التخريب والعبث فيها يتواصل ويستمر يوما بعد يوم، وسط صمت واهمال من كافة السلطات والحكومات المتعاقبة، والتي أصبح التراث والآثار أخر ما يشغل اهتمامها أو حتى تفكيرها.
التخريب للرسومات والمنحوثات الموجودة في جبال أكاكوس الشامخة وسط الصحراء الليبية بدأ منذ عام 2009 عندما قام موظف ليبي سابق بشركة سياحة أجنبية، برش الرزاز، على عدة لوحات، تعبيرا منه عن غضبه بعد فصله عن العمل.
النقوش الصخرية التي يعود بعضها إلى أكثر من 21 ألف سنة قبل الميلاد في جبل أكاكوس جنوب غرب ليبيا، تضررت بشكل كبير، بسبب إقدام البعض على تشويهها برسوم غرافيتي في السنوات الأخيرة، ورش السياح المياه عليها لتكون أكثر وضوحا في الصور .
حيث تسارعت وتيرة هذا التخريب والعبث في ليبيا بعد عام 2011 بسبب غياب الغطاء الأمني المناسب وخاصة في مناطق الجنوب الليبي ووسط الصحراء المهملة والتي ينتشر فيها التهريب والسرقة والتخريب .
التخريب تضاعف مع ابتعاد السياح عن هذه المناطق التي أصبحت في نظرهم غير آمنة للتنقل أو للسياحة وللزيارة، مما جعلها بعيدة عن الأعين، وعن الكاميرات والتوثيق، والرصد، وأصبحت محل تخريب .
وتشمل أبرز الآثار؛ فيلا ضخما منحوتا على الصخور، بالإضافة إلى رسوم تجسّد زرافات وأبقار ونعامات في كهوف يعود تاريخها إلى عصر لم تكن فيه المنطقة الصحراوية قاسية. لكنّ عددا كبيرا من هذه اللوحات دمر أو تضرر بفعل رسومات أخرى على الجدران أو نحت الأحرف الأولى أسماء بعض الأشخاص المخرّبين.
وتمتد هذه المنطقة الجبلية الشاسعة على حوالي 250 كلم مربع في صحراء منطقة فزان، وتشمل أكثر المناظر الطبيعية فرادة في العالم، وتحتوي على عدد لا يحصى من عجائب الطبيعة التي أنتجتها عوامل المناخ الصحراوي، ففيها عدد هائل من الكثبان الرملية، ومرتفعات صخرية ورملية تشكلت في أغرب الأشكال إلى جانب مجموعة من الأقواس والأخاديد التي تحجّرت على ضفاف الأنهار القديمة حين كانت الصحراء منطقة خصبة.
وفي ظل هذا الإهمال الذي تعاني منه كافة الآثار الليبية التي تمثل تاريخا لا يستحق التجاهل تتصاعد المطالبات للجهات المسؤولة بحماية هذه الرموز من السرقة والضياع والعبث، وحفظها وتحويلها إلى أماكن سياحية تعود على الدولة بالدخل والنفع وتجذب السياح إليها، كغيرها من الدول المجاورة التي استفادت من التاريخ وحافظت عليه وجعلته قبلة أولى للقاصي والداني .
إلا أن الوضع السياسي الصعب والسنين العجاف التي مرت بها ليبيا جعلتها لا تلتفت حتى الالتفات إلى قضايا الترات والآثار بل لا تحاسب حتى من يفسدها أو يعرضها للتخريب والدمار ما فتح الأبواب أمام أياد عبثية أخرى طالت بشكل خاص الأماكن البعيدة عن الأعين ومنها جبال أكاكوس الواقعة في المنطقة البعيدة الوعرة .
وتبقى كافة آمال محبي الآثار ومقدري قيمته معلقة على السلطة التنفيذية الجديدة في إنصاف ما يهوون متابعته ومشاهدته وترميمه بشكل دوري والاهتمام به، ومنع المواطنين من الاقتراب منه بل وحتى السياح .