منذ بدايات التشكل الاولى للدولة كجهاز سياسي في التاريخ العربي الاسلامي كان الاصطدام مع الديني وفق منظورات افراد وجماعات احتمت في الدين واتخذته واجهة لمشاريعها ..فالتحكيم بين علي ومعاوية عقب رفع المصاحف على اسنة الرماح كانت فكرة عمرو بن العاص وكانت تكتيكا سياسيا لاعلاقة له بالدين الا من حيث انه واجهة وجعله خديعة للاخر. كانت الادوات العسكرية والقهر الاقتصادي ادوات الدولة فكان التبرير الديني يشرعن وجود السياسي ويمنحه مشروعية في حين السياسي مغرق بفساده وبدنيويته ..ومع ظهور الدولة الحديثة بعد ثورات الاستقلال اهمها ثورة 23يوليو في مصر ظهرت الثنائية مرة اخرى ليس من خلال تكامل وظيفي بل من خلال تنازع الادوار تارة، وهيمنة احدهما على الاخر تارة اخرى .. ومع تبلور مؤسسات الدولة واعتماد نصوص دستورية واجراءات اقتصادية ظهرت مفردات الحداثة السياسية من خلال مفاهيم الدولة والديمقراطية والقانون والاشتراكية والليبرالية واخيرا المجتمع المدني وظهرت اجراءات اقتصادية متعددة هنا ظهر الديني من خلال جماعات ترى في هذه المفردات الحداثية مناهضة للاسلام والامر لا يقف هنا والا لكان هينا بل ان هذه الجماعات طابقت بين وجودها وبين الاسلام ذاته وهو الخطأ الذي اوقع الجماعة في صراعات متععدة داخل بنيتها ومع المجتمع ومع العسكر… في هذا السياق يمكن القول انه عندما جاء الاسلام كانت الدعوة (العقيدة) اساسا لبناء تجمع سياسي ورابطة اجتماعية هنا تضاءل دور القبيلة باعتبارها جاهلية بمنظومتها الثقافية والعصبوية وكانت الحروب في سبيل الدعوة (العقيدة)لاترتبط بالغنيمة بل الشهادة والكرامة ورفع راية الدعوة .. ومع معاوية انقلبت الاوضاع فكانت القبيلة اساس التجمع السياسي وكانت الغنيمة رابطة والية للتحالف ولتجميع الانصار والمؤيدين وكانت العقيدة لتشرعن وجود القبيلة والغنيمة في اطار من مفاهيم تكرس واحدية الدولة والخلافة والاسرة الحاكمة .. وللعلم في عموم التاريخ العربي الاسلامي وفي واقعنا المعاصر خصوصا كان الدين هو التعبير الاجتماعي عن صراعات سياسية وجهوية وطائفية واليوم تتبلور هذه الجدلية في تعبيراتها السياسية والحزبية الصريحة حيث الاستخدام السياسي للدين هو السائد من خلال مختلف القوى الحزبية والاجتماعية متمثلة بمراكز القوى وهو نفس المسلك للدول الكبيرة التي تستخدم الدين والقيم وحقوق الانسان كواجهة لسياستها الخارجية . وللعلم هذه الثنائية كانت ولاتزال تفرز كوارث ومآسي كثيرة . ومع ظهور العسكر كمؤسسة قوية ومنظمة وذات فاعلية في الدولة والمجتمع ومع ضعف الاحزاب والمكونات السياسية التقليدية بقيت الجماعات الدينية (الاسلام السياسي) في مواجهة العسكر .وهنا لعب الاثنان وفق منطق براغماتي ذرائعي وهو منطقهما الرئيسي ..فتارة يعقدون صفقات مساومة وتارة يدخلون في مواجهة صدامية وثالثا يجهزون العدة للانقضاض على بعضهم .. لكن في جميع الاحوال كان قدرا من التعايش هو المسلك الثابت بينهما تعبيرا عن براغماتيتهما النفعية ..وما المجتمع الا مجرد حشود شعبية تارة يصوت للديني كممثل لجماعات واحزاب وتارة يصوت للسياسي ممثلا بالعسكر او من يمثلهم من ليبراليين او قوميين .. هنا تجدر الاشارة الى انه في الغرب تم حل العلاقة بين هذه الثنائية من خلال مدنية الدولة ووضع مجالات محددة كمساحة لحضور العسكر خارج مهاهم ووظيفتهم الاساسية ووفق فاعلية الدستور والقانون (طبعا في الخفاء وبشكل غير مباشر الجيش والمخابرات هم من يصنعون القرارات الحاسمة) لكن على الاقل لايتدخلون في النشاط اليومي المدني ولا في المسألة الديمقراطية ولا يتنازعون جهارا نهارا على السلطة. والامر الاكيد ما تم حسمه في الغرب تجاه المسألة الدينية التي اصبحت مسألة مدنية منذ مارتن لوثر وحتى اليوم وهو الحل اللازم حضوره عربيا للخروج من مأزق كارثي مستمر خلال الالف عام بل ومن قبله ايضا .ونقصد بذلك جعل الدين ضمير الافراد والمجتمع ..والدولة مجال السياسي وصراعاته ..الديني مرجعية حضارية وثقافية والسياسي تعبير قانوني ومؤسسي لهذه المرجعية من خلال تعبيرات المجتمع المدني والمواطنة المتساوية . وهنا حان الوقت لتغيير التعبيرات السياسية من خلال الفعل المباشر وفق اطر حزبية مدنية مفتوحة في الانتماء للجميع دون تمييز وان يكون المجال الديني مجال عمومي للمجتمع بتعدد انتماءاته دون ممارسات اكراهية من الدولة(الحكومة) او من خلال الاحزاب والجماعات وان يكون المجال السياسي مجال عمومي وفق نواظم قانونية لامجال فيها للتفرقة بين المواطنين ..هنا يتم اعادة الاعتبار للثنائية بتقعيد محوريها كل في مكانه الطبيعي تحقيقا للاستقرار السياسي والمجتمعي في آن واحد؟