جدل العلاقة بين الثيمة والشخصية

حجم الخط
0

كتب حسن سرحان على صفحات جريدة “القدس العربي” دراسة تناول فيها العلاقة بين الثيمة والشخصية في الرواية. ولأهمية الموضوع كما نراه أيضاً، نسعى خلال قيد التداول ما يضعنا في موّقف قريب من وجهات النظر المطروحة، ولكن عبر منظور خاص وعيّنات تقدم قناعة موضوعية لما طُرح.

يستند الرأي الذي يخص هذه العلاقة على جدلية وجود الطرفين. وهو أمر طبيعي في النص، لكن الأهم في الأمر هو العلاقة البنائية بين الطرفين، فلا وجود لشخصية بدون الثيمة، والعكس صحيح. فهما متلازمان لإنتاج نص يُجنس بالرواية. وقد طرح جملة أمثلة على ذلك، مؤكداً على فروقات البناء في كلا الطرفين، متوقفاً على السلب والايجاب عبر ما قدم من تأثيث للرواية في العالم. هنا سوف نسلط الضوّء بتركيز على عيّنة مما أنتجه العقل الروائي، لنعالج مثل هذه العلاقة التي نعتناها بالجدلية، أي العلاقة التي لها ارتباط بالسبب والنتيجة؛ وهي ثيمة (الطهارة والدنس) في رواية “الأُخوة كارامازوف” لفيدور دستويفسكي، وما أنتجته من انعكاسات على الشخصيات. كان لهذا مؤثرات بنيوية في ما يخص تشكيل الشخصية وبنائها الأسري والاجتماعي والنفسي. ونقتصر في المعالجة على ثلاث شخصيات (الأب، إليوشا، سميرداكوف) لأن وجودهم متعلق بثيمة (الطهارة والدنس) التي أنتجت جريمة قتل الأب. فالأب شخصية مزاجية، يخضع لدوافع جنسية غير طبيعية أو شرعية، فهو سائر وراء رغباته ودوافعه الذاتية السلبية. إليوشا نتاج الانحراف الأُسري أيضاً، لكن انحرافه ينطلق من الذات خلال تعميق العلاقة مع المقدس (الكنيسة) وبالتالي بشخصية الأب (زوسيما) خاصة اعترافاته قبل موته. وهو نوع من التخلص من شوائب الأسرة، بدون الابتعاد عنها وخلق عزلة عن أفرادها. ثم (سميرداكوف) الابن غير الشرعي. الرواية قامت على هذه الثيمة، والشخصيات نمت وتطور وجودها خلال علاقة الأجزاء بالكليات الروائية (الثيمة) المركزية. فالأب مثلاً أنتج كياناً معقداً نتيجة مواقعة الخادمة تلبية لدوافعه الجنسية، والذي زاد الابن غير الشرعي تعقيداً هو تأنيب الأب وتأجيج إحساسه بوجوده المدنس، وأنه لا ينتسب إلى العائلة ذات المنزلة الطبقية الرفيعة، وصل حد وضعه في زاوية ضيقة، الغرض من ذلك محو الشخصية من سجل العائلة، وهو نوع من الطرد عن المجال الذي لا تعرف الشخصية غيره، باعتباره نشأ داخله، واكتسب صفاته الذاتية من علاقاته المختلفة والمتباينة. نمت لديه عقدة العلاقة السلبية مع الأب. وكان نمو العقدة قد أثّر على طبيعة الشخصية، وتحوّلاتها من شخصية سوية راضية بوجودها القاهر إلى كتلة من الانتقام، وصل حد جريمة قتل الأب، أي إنهاء مصد التحقير والتأثير. وتطور هذا وعلى عجالة في تصفية وجوده عبر انتحاره، يخلق جريمة مركبة، ولنلاحظ الكيفية التي عليها هذا النموذج كثيمة روائية، استجمعت تغيراتها السلبية من مصدر واحد هو الأب.

الرواية عالم كوّني يضم جملة علاقات، تتأثر بالشخصيات وتؤثر فيها في الوقت ذاته

إن قتل الأب كما ذكر (فرويد) هو مركب من الانتقام الذي تطورت سماته وتحوّلت إلى أسباب موجبة لارتكاب الجريمتين (القتل والانتحار). بمعنى نمو موضوع العقدة التي هي جزء من الثيمة المركزية في الرواية. أما (أليوشا) فقد نجا من هذا الاشتباك ذاتياً، لكنه أيضاً كان حاصل تحصيل لثيمة الدنس، معوّضاً إياها في الانتماء إلى الأكثر طهارة من وجهة نظره وهي الانتساب إلى الكنيسة، أي الانضمام إلى الدين كمخلص. وقد تعمقت علاقته بالأب (زوسيما) ووصلت حد الرهبنة. وما الاعتراف في حضرته سوى كوّنه الخلف للأب بعد موته .أما الأب وهو مركز العقدة في الرواية، فقد تواصل مع تلبية نزواته. مقابل ذلك حظي بنوع من تهدئة العلاقات. فسميرادوكوف له علاقة بأليوشا، وهي علاقة بناها أليوشا قصدا للتخفيف من وزر الإحساس بالدنس والتأنيب، وبدوافع دينية مسيحية. إن اختلاف التوجهات وبناء الشخصيات كان بسبب طبيعة تصرفات الأب، التي خلقت عقدة الدنس المسبب للجريمة، وإن حدث الجريمة كان نتاجاً لعقد تشكل شخصية الأب المنحرفة. وهذا الانحراف يمنح بطبيعة الحال أشكالا من التوجهات. وفعلاً أنتج نموذجاً يحمل معتقداً دينيا ومبشرا لاهوتياً مثل (أليوشا). ثم شخصاً يحمل عقدة الفكاك منها إلا بحدث أكبر منها وهي الجريمة، فأصبحت المعادلة كالآتي:  أب مدنس + قسوة الأب أنتجتا عقدة ذاتية أخذت تنمو وتتبلوّر إلى مفهوم الانتقام، ثم جريمة قتل الأب.

ــ الابتعاد عن تشكلات كهذه، سواء بطفرة نوعية للحفاظ على ذاتية الشخصية، متمثلة في أليوشا وانتسابه إلى الكنيسة.

ــ وسط طرفي العقدة كانت جريمة قتل الأب.

هذه المداولة في الرواية التي تخص مركزها، هي الثيمة الأهم التي فرشت غطاءها على الشخصيات جميعاً، وبالأخص النماذج الثلاثة التي عالجناها في ورقتنا هذه، لكي نتوصل إلى أهمية المعادلة التي تنتجها العلاقة الجدلية بين الثيمة أو موضوع النص الروائي مع الشخوص، أو ما اصطلح عليه حسن سرحان، الثيمة والشخصية. ولعلنا في هذا المثل المجتز من مجموعة بلا حدود مما أنتجته الرواية منذ نشوئها، فالعلاقة قائمة على السبب والنتيجة، فلدى دستويفسكي معالجة أُخرى لشخصية (راسكلنكوف) في رواية “الجريمة والعقاب”، ليس من باب فعل الجريمة في قتل العجوز المرابية، وإنما من بناء الشخصية ونموها ضمن ثيمة مركزية للنص. بمعنى التلازم الجدلي بينهما، إن ما نجده في نموذج رواية “الأخوة كارامازوف” هو الدقة في بناء الشخصيات وتأثيرات أحداث الرواية وتطورها على وجودها الأسري والاجتماعي والنفسي، فهي نماذج غير منقطعة بمعنى التشتت عن مركزها، بقدر ما تتصل به مع المحافظة على ذاتيتها. وهذا ما نعنيه بجدلية العلاقة. فهي ليست من صنع الكاتب، بل هي واقع حال تخلقه التشعبات الثقافية والرؤى وطبيعة الأحداث، إن الرواية عالم كوّني يضم جملة علاقات، تتأثر بالشخصيات وتؤثر فيها في الوقت ذاته. فليست الشخصية عائمة الوجود، بل هي سابحة في فيض تشكلات أحداثها (ثيمتها).

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية