جديد بايدن الموهوم

ربما لا جديد نوعي في السياسة الأمريكية نحو إيران، ولا غيرها في منطقتنا، فما تفعله إدارة جو بايدن الجديدة، لا يختلف في جوهره عن اختيارات سلفه وغريمه دونالد ترامب، وقبل نحو شهرين، وقبل دخول بايدن إلى البيت الأبيض، بأكثر من عشرة أيام، كتبت مقالا بعنوان «لعنة ترامب الإيرانية»، نشر بتاريخ 9 يناير/كانون الثاني 2021، وقلت فيه بالنص «صحيح أن بايدن أعرب عن استعداده المبدئي للعودة للاتفاق النووي الإيراني، وصحيح أن إيران تستبشر خيرا بالإدارة الأمريكية الجديدة، لكن لعنة ترامب التي أصابت اتفاق 2015، وانسحابه منه أواسط 2018، وفرضه لعقوبات الضغط الأقصى على إيران، كلها مآزق مستحكمة، تجعل العودة للاتفاق الأصلي احتمالا غير قريب ولا أكيد» .
وبعد أسابيع ترقب متصلة، لاتزال القصة الإيرانية تراوح مكانها، رغم اتصالات الطرفين الأمريكي والإيراني في الكواليس، والوقائع اليومية في المشهد الأمامي، وكلها تشير إلى المأزق المستحكم، وعلى نحو ما تعبر عنه تصريحات مريرة للمسؤولين الإيرانيين، من الرئيس حسن روحاني إلى وزير خارجيته جواد ظريف، وهما في الجناح «الإصلاحي»، الذي راهن بشدة على بايدن، وداعب أحلام العودة إلى سياسة باراك أوباما الرئيس الأمريكي الأسبق، الذي عمل بايدن نائبا له لثماني سنوات، بما فيها وقت عقد الاتفاق المريح نسبيا لإيران، لكن سفن بايدن المشتهاة لم تأت بعد، ولم يرفع شيء من عقوبات ترامب القصوى، اللهم إلا سحب طلب رمزي بإعادة فرض عقوبات دولية على إيران، قدمه مايك بومبيو آخر وزير خارجية لترامب، ولم يكن الطلب أكثر من سد خانة، وسلوك دبلوماسي مفرط في عدوانيته، ولكن بلا أثر فعلى ولا قيمة قانونية، خصوصا في ظل «الفيتو» الروسي والصيني المتحفز في مجلس الأمن الدولي، وهو ما تدركه الإدارة الإيرانية طبعا، ويجعلها تستهين بلفتة بايدن منزوعة الدسم.

ما تفعله إدارة جو بايدن الجديدة، لا يختلف في جوهره عن اختيارات سلفه وغريمه دونالد ترامب

الإدارة الإيرانية تريد عودة أمريكية صريحة مباشرة إلى اتفاق 2015، وبغير تعديل ولا زيادة، وتريد قبلها رفعا كاملا لعقوبات ترامب، بينما تريد إدارة بايدن حشر إيران في المأزق، وجرها إلى دهاليز مفاوضات جديدة، كلفت بها الحلفاء الأوروبيون، الذين دعوا إلى عقد اجتماع للدول الخمس، التي عقدت اتفاق «لوزان» مع طهران، بما فيها الصين وروسيا وأمريكا طبعا، وهو ما جعل إيران ترفض حضور الاجتماع، إلى أن تعود واشنطن للاتفاق رسميا، وهو ما لا تبدو إدارة بايدن ذاهبة إليه قريبا، ولا هي في عجلة من أمرها، وتعاني من ضغوط تيار ترامب في الداخل، ومن ضغوط إسرائيلية بالذات، تضع العصي في العجلات، وتعترض على عودة واشنطن للاتفاق الإيراني، وتضيف مسائل حرجة على جدول الأعمال، من نوع تقييد برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية، وتحجيم نفوذ إيران في المنطقة، وهو ما تكرر بإلحاح في تصريحات أنتوني بلينكن وزير خارجية بايدن، وترفضه طهران بصورة قطعية، وتحرك بيادقها في العراق واليمن بالذات، بهدف تكثيف الضغوط على الإدارة الأمريكية، وبما دفع بايدن للرد الرمزي، وبطريقة تشبه ما سلف من سلوك ترامب، وتوجيه ضربة خاطفة لفصائل عراقية موالية لإيران في شرق سوريا، وهو ما يعني استعداد إدارة بايدن لاستخدام اللغة العسكرية مجددا ضد إيران، وبهدف إرغامها على قبول تفاوض جديد مختلف، لا يريده حكام طهران، وبالذات في دائرة المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي لوح بإمكانية رفع إيران لنسبة تخصيب اليورانيوم إلى ستين في المئة، وعدم الاكتفاء بتجاوزات إيران السابقة لشروط الاتفاق النووي، ورفعها لنسبة التخصيب من 3.67% كما ينص الاتفاق، إلى نسبة العشرين في المئة، ومضاعفة كمية اليورانيوم المخصب المسموح بها إلى اثني عشر مثلا، ووقف الالتزام بالبروتوكول النووي الإضافي، وإلغاء عمليات التفتيش المفاجئ للمواقع النووية الإيرانية، من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والزج بإيران إلى موضع حرج دولي، وإلى إدانات جديدة، تبرر دعوى التورط الإيراني في التخطيط لصناعة أسلحة نووية، رغم عقد طهران لاتفاق الثلاثة شهور مع الوكالة الدولية لتنظيم التفتيش والمراقبة، ربما على أمل من طهران لإتاحة وقت إضافي، قد ينتهي معه التردد الأمريكي في العودة لاتفاق 2015، وهو ما لا يبدو واردا ولا أكيدا، خصوصا مع توقع صعود إدارة إيرانية متشددة في انتخابات يونيو/حزيران المقبل، وفي ظل التزام واشنطن المخفي بدعم خطط عسكرية إسرائيلية معلنة، بتنفيذ هجمات مباشرة على مواقع إيرانية حساسة، قد تسد الطريق إن جرت على احتمالات عودة واشنطن للاتفاق الإيراني.
ليس في القصة الإيرانية إذن، سوى توزيع أدوار جديدة على اللحن القديم، وسوى أقوال أمريكية مختلفة في الظاهر، فيما يبقى السلوك نفسه في المحصلة، وهي الحالة نفسها، التي نراها في تصرفات أمريكية أخرى في المنطقة، من نوع استخدام الفزاعة الإيرانية لترهيب الكيانات الخليجية التابعة بالخلقة لواشنطن، واستخدام جماعات إيران من نوع «الحوثيين» وغيرهم، بهدف إدامة وتشجيع مصادر التهديد المتصل للمملكة السعودية بالذات، ودفعها لتقبل إقامة شبكة قواعد عسكرية أمريكية جديدة على أراضيها، وقد تستخدم واشنطن ورقة حقوق الإنسان، ولكن لكسب مصالح لا علاقة لها بالمبادئ، وهكذا كان الحال الأمريكي دائما وبدرجات متفاوتة، وبما لا يتيح فرصة عزاء لأيتام واشنطن، الذين يحلمون بتدخل أمريكي لإسقاط أنظمة لا يريدونها، بينما واشنطن أدرى بمصالحها، وليست جمعية خيرية، ويزيد مأزق هؤلاء الأيتام في حالات عربية مختلفة عن الحالة الخليجية، فالذين يعولون مثلا على دور لواشنطن في تغيير النظام المصري، لا يدركون أن مياها كثيرة جرت تحت الجسور، وأن حاجة القاهرة الرسمية لواشنطن تراجعت بشدة في السنوات الأخيرة، وأن ما تبقى من المعونة الأمريكية العسكرية لمصر، صار شيئا هامشي التأثير، خصوصا بعد سياسة تنويع مصادر السلاح المصري، وإعادة التركيز على تطوير الصناعات الحربية، وتلاحق صفقات السلاح المليارية لمصر، من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها، إضافة لواردات السلاح الضخمة المتطورة من الصين وروسيا، وهي حقيقة كبرى، عبّر عنها ترامب نفسه في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، حين اتهم مصر علنا بأنها تأخذ المعونة الأمريكية لتشتري السلاح الروسي، في تعبير فج عن ضيق أمريكي بسياسة السلاح المصري الجديدة، وهو ما كان ظاهرا في أول اتصال رسمي علني بين القاهرة وإدارة بايدن، فقد عبر بلينكن وزير خارجية بايدن عن بالغ ضيقه في اتصاله الهاتفي مع سامح شكري وزير الخارجية المصري، وأشار بالذات إلى تحذير من صفقة شراء مصر لطائرات «سوخوي ـ 35» من روسيا، ومن دون أن ينسى التلويح كالعادة بورقة حقوق الإنسان، وهو ما لقى تجاهلا ملحوظا من الإدارة المصرية، ولسبب بسيط تعلمه أمريكا طبعا، فقد عقدت الصفقة بالفعل، وبدأ التنفيذ من شهور، وهو ما ذكرته مصادر كثيرة، بينها المصادر الإسرائيلية، التي تحدثت عن صفقة مصرية لشراء 500 دبابة روسية إلى جوار أسراب السوخوي ـ 35، ومن السلاح إلى الاقتصاد والسياسة بالجملة، فلا شيء يتغير في مصر إلا من داخلها، وليس من أي مكان آخر.
والمعنى الباقي ببساطة، أن بايدن في ما يخصنا لا يختلف إلا في الاسم وطريقة الكلام عن سلفه ترامب، الذي عاد بقوة إلى جدال الداخل الأمريكي، وظهر متحدثا أبرز أمام المؤتمر السنوي لفكر المحافظين قبل أيام، وتوعد بمعركة قاسية لكسب الأغلبية في انتخابات الكونغرس المقررة أواخر العام المقبل، وبدا كأنه الملك المتوج للحزب الجمهوري، وتوعد بعقاب انتخابي باتر لمن تبقى معارضا له في الحزب، ومن تخلف عن تبرئته في محاكمة الكونغرس الأخيرة، وبدا منتشيا طاووسيا واثقا من عودته للبيت الأبيض في انتخابات 2024، وسخر مرارا من ضعف بايدن، الذي يقضي أيام رئاسته أسيرا لإرهاب واختيارات ترامب الجوهرية في الداخل والخارج.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية