لن أخوض في تفاصيل جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقحي في مقر القنصلية السعودية في إسطنبول التركية قبل نحو ثلاثة أسابيع، فالمئات إن لم يكن الآلاف من الصحافيين ووسائل الإعلام، سبقوا في الكتابة عن هذه الجريمة، التي تفوقت في بشاعتها على عمليات تنظيم «داعش». ولا يزال القتلة يتكتمون على مكان الجثة، لكنني سأكتب عن الحماقات والتصرفات التي رافقت هذه الجريمة التي ارتكبت مع سبق الإصرار والترصد.
تؤكد جريمة قتل خاشقجي البشعة التي نفذت بأسلوب يعود إلى القرون الوسطى، بفصل الرأس وتقطيع الجثة بمنشار أحضره معه فريق القتل الدبلوماسي، عددا من القضايا أولها أن تنظيم «داعش» جاء من رحم جهاز المخابرات السعودية. ثانيا أن داعش تنظيم خائب وفاشل، ولم يتعلم من أساتذته فنون القتل والتقطيع والتمثيل بالجثث. المعروف أن الطالب يتفوق على أساتذته، لكن في حال تنظيم «داعش» أثبت العكس. فجرائمه رغم بشاعتها وعنفها لم تصل إلى ما وصلت اليه عبقرية رجال المخابرات السعودية في التعذيب ثم التقطيع.
ثالثا: أن جهاز المخابرات السعودي حاول بغباء تقليد جهاز المخابرات الإسرائيلية الخارجية «الموساد» ـ الذي يجري الحديث عن تعاون وثيق بينهما ـ في جريمة اغتيال محمود المبحوح أحد قادة حماس في أحد فنادق دبي في يناير/كانون الثاني 2010. وفلت المجرمون رغم معرفة أسمائهم وأرقام جوازات سفرهم المزورة، ولم تكلف دولة الإمارات خاطرها، المطالبة بهم ومحاكمتهم حتى ولو صوريا، ما يدل على التعاون الوثيق بين المخابرات الإماراتية والموساد أيضا. لكن الفرق أو بالاحرى الفروقات، بين جريمة الموساد وجريمة المخابرات السعودية في قتل خاشقجي، أن المتورطين في جريمة المبحوح دخلوا دبي على فترات طويلة، أفرادا وليس زرافات، كما فعل رجال المخابرات السعوديين الذي وصلوا إلى مطار أتاتورك في إسطنبول قبيل ساعات من تنفيذ الجريمة، على متن طائرتين خاصتين، وغادروا إسطنبول على متن الطائرتين بعد الانتهاء من جريمتهم.
عملاء الموساد ظلوا على مدى أيام، وربما أسابيع يتصرفون كسياح، بينما كانوا يراقبون تحركات المبحوح في الفندق الذي كان ينزل فيه، وهم على أرض صديقة. ولم يكونوا بحاجة إلى التخلص من آثار الجريمة ممثلة بجثة الضحية. أما رجال المخابرات السعودية فقد نفذوا عملية فوق أرض غير صديقة نوعا ما، واقتيدت الضحية إلى القنصلية السعوية، أمام عدسات الكاميرات، ولم تخرج منها كما دخلتها، رغم محاولتهم البائسة في التمويه. عملاء الموساد غادروا دبي كما دخلوها أفرادا، وربما بمساعدة جهاز المخابرات الإماراتي، بعد أن حقنوا ضحيتهم بمادة قاتلة، ولم يتركوا أثرا سوى جثة الشهيد.
رجال المخابرات السعودية جاءوا بخطة محكمة «ما بتخرش المية منها» كما يقولون. فقد كانوا في استقبال الضحية في مقر القنصلية، وفي مكتب القنصل نفسه، ولم يفكروا ولو للحظة أن هناك من كان ينتظر الضحية في الخارج، خطيبته خديجة التي كانت لديها تعليمات بالاتصال بالسطات التركية في حال لم يخرج خطيبها من القنصلية. ومن دون تفكير في العواقب قتلوه على الفور ومثلوا بجثته، وهم يستمعون للموسيقى، كما نقل القول عن المجرم الأول الذي باشر بعملية التقطيع، وانفضحت جريمتهم بعيد ساعات فقط من تنفيذها. ولمداراة الفضيحة ومع تصاعد الأزمة تغيرت الرواية السعودية حول مصير خاشقجي ثلاث مرات، ما أكد عدم مصداقيتها، الأولى النفي المطلق بمعرفة مصيره ومقتله، والتأكيد على خروجه من القنصلية، وجاءت الرواية الرسمية الثانية لتؤكد مقتله خلال شجار داخل القنصلية، والرواية الثالثة والأخيرة التي تفتق عنها ذهن المخابرات السعودية، هي أن موت خاشقحي جاء نتيجة اختناقه خلال محاولة السيطرة عليه، ولكنهم رغم اعترافهم بارتكاب الجريمة، لم يكشفوا حتى كتابة هذا المقال عن الجثة.
رجال المخابرات السعودية لم يفكروا أن هناك من كان ينتظر الضحية في الخارج
وطلع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، بتصريح أن بلاده تعكف على العثور على جثة خاشقجي. وقال: «نعكف على العثور على جثة خاشقجي وتحديد ما حدث!». وأهم ما في تصريحات الجبير هو محاولة إبعاد الشبهة عن سيده وولي نعمته محمد بن سلمان، نافيا بالمطلق معرفته بالجريمة، مع أن الفاعلين هم من رجالات بن سلمان والعاملين في بلاطه، أو في جهاز المخابرات، ولا يمكن أن يقدموا على أي تصرف، ناهيك عن جريمة قتل بشعة من دون علمه. وهذا الكلام له تفسير واحد وهو أن ابن سلمان لا يسيطر على بلاطه ولا جهاز مخابراته، وهذا كلام أحمق. والشيء بالشيء يذكر فإن خالد بن سلمان الشقيق الأصغر لمحمد بن سلمان وهو السفير في واشنطن، ربما يكون ضالعا في المؤامرة، فهو الذي رفض تخليص أوراق خاشقجي للطلاق ودفعه للذهاب إلى إسطنبول، وهو على علم بما سيجري، ربما ليس القتل وتقطيع الجثمان. واعترف الوزير السعودي مشكورا بأن ما سماه بالواقعة كانت «خطأ جسيمًا»، ولكنه لم يدنها بأي شكل من الاشكال رغم تأكيده على «أننا مصممون على محاسبة المسؤولين عن مقتل خاشقجي». والانكى من ذلك أن الملك سلمان، وفي محاولة لإبعاد الشبهة عن نجله، شكّل لجنة برئاسة ولي العهد، لإعادة هيكلة الاستخبارات العامة. وكما يقول المثل «حاميها حراميها».
خاشقجي رحمه الله، كان لديه احساس بأن سوءا ما سيتعرض له، لهذا طلب من خطيبته التحرك إذا لم يخرج من القنصيلة، ولكن لم يوصله تفكيره إلى أن قنصلية بلاده يمكن أن تتحول إلى محل جزارة، وفي اعتقادي أن أقصى ما فكر به أن يجري احتجازه ومساومته على العودة إلى السعودية، أو حتى إجباره على العودة. وأظن أنه لم يعتقد ولو للحظة أن يصل الإجرام بسلطات بلاده وجهاز مخابراتها، إلى قتله وتقطيع جثته في قنصليتهم، من دون الأخذ بالحسبان الضجة الإعلامية الدولية، فقد تصرفوا كما لو أنهم في بلدهم، وفعلوا به ما فعلوه ويفعلونه مع أي شخص ينطق بكلمة معارضة لمحمد بن سلمان، جريمة خاشقجي ليست الأولى في التاريخ الأسود للنظام السعودي، ولن تكون الأخيرة لنظام استبدادي رجعي متخلف.
والشيء الإيجابي الوحيد في جريمة قتل خاشقجي، إذا صح التعبير، أن العيون تفتحت على جرائم هذا النظام، ليس في الداخل السعودي فحسب، بل في الخارج أيضا، الجرائم التي يرتكبها ضد الشعب اليمني منذ أكثر من3 سنوات بحجة محاربة الحوثيين. جرائم ترتكب ضد شعب أعزل، وخلّفت وراءها حتى الآن 60 ألف شهيد غالبيتهم العظمى من الأطفال والمدنيين، وخلّفت بلدا مدمرا. وحسب وصف الأمم المتحدة أنه على حافة أبشع مجاعة منذ أكثر من قرن، وتسببت في أسوأ انتشار لمرض الكوليرا منذ أكثر من 70 عاما.
هذه الجرائم ممثلة بالحرب على اليمن والتمثيل بجثمان خاشقجي، التي يرتكبها النظام السعودي، لا يتحمل مسؤوليتها هذا النظام وحده، بل كل دول العالم، وفي مقدمتها إدارة دونالد ترامب، الذين يغطون على جرائمه مقابل دولاراته، وتدفق سلاحهم إليه، هذه الدول هي التي تقدم الحماية لهذا النظام وأمثاله في العالم، لاسيما في منطقتنا العربية.
وأخيرا أقول من يستطيع من انظمة الغرب الداعمة لنظام الرياض الدموي، من الآن فصاعدا لوم تنظيم «داعش» على ما يفعله. وإذا كان لا بد من محاربة هذا التنظيم بفعالية فيجب محاربته في عقر داره السعودية، فهناك خللق هذا التنظيم وربما يخلقون تنظيما اكثر اجراما.
وأختتم بالقول رحم الله خاشقجي ورحم الله اطفال اليمن وشعب اليمن وكل ضحايا هذا النظام الاستبدادي وهم كثر، ولا بد من ملاحقة القتلة والمجرمين. وعدم القبول بأكباش فداء ممثلين بعدد من مسؤولي جهاز المخابرات، فرأس الأفعى لا يزال حرا طليقا ولا بد أن يمثل هو ومن يشد على يده، أمام العدالة الدولية وينال الجزاء الذي يستحقه على جرائمه المتواصلة.
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»