جزائر نهاية القرن… كاميرا تصور الركام

حجم الخط
1

رغم مرور ما يربو على ثلاثين سنة على صدور فيلم «عائلة كي الناس»، لا يزال الجزائريون يُعيدون مُشاهدته، يبتهجون بسخريته، يرددون في ما بينهم بعض العبارات المُقتبسة منه، مثل: «سوق أمك اللي يفتح في الليل» أو «وجوه الشر يتبعوا في كي الجراد»، فهو واحد من أفلام الحنين إلى زمن انقضى، غالبية الممثلين الذين شاركوا فيها صاروا في وقت لاحق نجوم الصف الأول في التلفزيون العمومي، يمعن المتفرجون في أدائهم وفي حواراتهم، بصرف النظر عن ضحالة العمل فنياً، فقد جاء في سيناريو مُفكك، كما لو أنه كُتب على عجل، يُضاف إليه سوء التصوير، كل هذه الهفوات يتغاضون عنها، في بلد أسرف في تغييب الكوميديا، إلى درجة صار فيها الناس يضحكون على أبسط الأشياء، فقط للترويح عن أنفسهم.
كل القراءات والتعليقات التي قاربت ذلك الفيلم، ركّزت على بعده الساخر، وتناسى الجميع أنه فيلم يدخل ضمن بروباغندا رسمية، كما لو أنه أُنجز تحت الطلب، الغاية منه خدمة الخطاب السياسي السائد حينذاك ـ بالدرجة الأولى ـ لا إمتاع الجمهور.
قصة الفيلم جد بسيطة لا تشويق فيها، تحكي عن عائلة متوسطة الحال، تُقيم في شقة من غرفتين ومطبخ في حي شعبي، تنوي شراء سيارة قصد أن تصير «عائلة كي الناس»، في رغبة منها في التشبه بالآخرين، فالجزائري لا يهدأ له بال، إلا إذا تملك ما يملكه جاره، ينتهي بها الأمر إلى شراء السيارة بسهولة، بدون تعقيدات، على الرغم مما يظهر في البداية على أنها مهمة متعسرة، ثم تشتري تلك العائلة آلة نسيج للبنت الصغرى، من أجل تنويع مداخيلها. لا يحمل الفيلم ذاته أدنى إثارة ولا بعداً درامياً، لم ينقذه سوى الأداء الجيد للممثل الرئيسي عثمان عريوات (1948) الذي كان بمثابة الشجرة التي غطت ضعف العمل، الذي كان واحداً من آخر الأفلام التي صورت زمن الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، رئيس البلد بين 1979 و1992، فبعد سنوات أولى شرّع فيها الباب للأحلام وأغدق فيها على الجزائريين الوعود، اصطدم بانهيار أسعار البترول في مرحلته الأخيرة، ما عجل بفرض التقشف ودخول حالة من القلق.

عائلة كي الناس» واحد من أكثر أفلام البروباغندا الرسمية، ولعل الممثل القدير عريوات ندم على قبول المشاركة فيه، إنه يُشبه نقطة رمادية في مساره الفني الحافل، وإن عاد به الزمن إلى الوراء قد لا يقبل أن يظهر فيه ولو كممثل ثانوي.

في تلك الأثناء تعود الناس، للمرة الأولى على سماع مصطلح «أزمة اقتصادية»، الذي تردد بكثرة في نشرات الأخبار، وجاء هذا الفيلم كي يحضر الشعب نفسياً لتقبل «شد الحزام»، حيث أننا نسمع عثمان عريوات، يكرر ذلك المصطلح في الفيلم ذاته ثلاث مرات، في غضون دقائق معدودات، بدون أدنى سبب. المهم أن يستجيب لما جاء في السيناريو، ويمرن الآذان على تقبل الأزمة التي بات يموج فيها البلد، التي ستستمر مع نهاية القرن المنصرم، جراء سقوط سعر البرميل.
«عائلة كي الناس» واحد من أكثر أفلام البروباغندا الرسمية، ولعل الممثل القدير عريوات ندم على قبول المشاركة فيه، إنه يُشبه نقطة رمادية في مساره الفني الحافل، وإن عاد به الزمن إلى الوراء قد لا يقبل أن يظهر فيه ولو كممثل ثانوي. فقد أطال المُخرج في مشاهد تمتدح النظام وقتذاك، تبرؤه من كل العثرات، وتنسب المأزق الذي انحدر إليه البلد إلى الشعب، حيث يتبادل ممثلان حواراً يلصق بالناس تهمة التكاسل في العمل، تقصيرهم في وظائفهم، وأنهم ينصرفون من مواقع عملهم دائماً قبل الوقت، ولا يُبالون بما أوكل إليهم من مهمات، وإن كان في ذلك الكلام صدقا فقد وقع في فخ «التعميم»، الغاية منه واضحة، أن الحكومة تكد وتجتهد، بينما الشعب غير مُبالٍ. في واحد من المشاهد غير المبررة في «عائلة كي الناس»، مباشرة بعد شراء سيارة، تتجه العائلة إلى «مقام الشهيد»، ذلك النصب المخلد لشهداء حرب التحرير، الذي أنجزته شركة كندية، يشبه شكله ثلاث سعفات تتقاطع في ما بينها في منتصف الارتفاع، يقف الممثلون أمامه في انبهار، كما لو أنهم في ومضة إشهارية، تنتهي بمقولة الممثلة فتيحة بربار: «بلادنا شابة» (بلدنا جميل). لم يكن اختيار ذلك المكان صدفة، فمقام الشهيد رمز من رموز مرحلة الشاذلي بن جديد، أراد أن يجعل منه وجهاً منيراً، يخفي سوء الحكم والفقر الذي كان يعشش في الداخل، أقام بالقرب منه ما يُطلق عليه «رياض الفتح»، ذلك المركز التجاري الضخم، الذي لم يكن متاحاً سوى للأثرياء، ففي نهاية الثمانينيات غالبية الأحداث الفنية الكبرى كانت تُنظم هناك، مع أنها أحياناً لا تتلاءم مع جو المكان، فمن بين هفوات موسيقى الراي، التي ولدت وكبرت في أحياء شعبية، انتظمت في أول مهرجان محلي لها في (رياض الفتح) في تناقض صريح مع ماهيتها، وجاء ذلك الفيلم كي يعزز من تفاخر الشاذلي بن جديد بنفسه، مروجاً لصنائعه، بدون أن ينتبه ذلك الرئيس إلى أنه كان يعيش أشهره الأخيرة، وأن البلد ذاته يستعد للدخول في نفق لن ينفعه فيه لا رياض الفتح ولا مقام الشهيد، ولا حوارات الممثلين المبتذلة بأن الجزائر بلد جميل.
إن ذلك الصرح السياحي والتجاري الذي أصر عليه الشاذلي بن جديد قابله مجتمع يغرق في الغيبيات، وفي الشعوذة، ذلك ما يظهر من متابعة المشاهد الأخيرة في الفيلم، فحين تنوي الأم تزويج بكرها، الذي تمنّع عن النساء كلهن، تجمع بناتها وتستشيرهن في أمر مشعوذة يُقال إنها الأشطر في صنع تمائم تزويج العزاب. لقد كانت فترة بن جديد فترة التناقضات، تزاحمت فيها حالة غضب شعبي، سوف تقود إلى ثورة 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988، وانغماس المجتمع في الإيمان بالشعوذة، مع ذلك ظل يُفاخر بإنجازات لم نرها في الواقع، محصورة في بنى إسمنتية وفي ركام خرسانة، وجاء ذلك الفيلم كي يروج لها، على الرغم من أنه تضمن شخصيات إيجابية في جلها، لكن السيناريو ضيق عليها خانة التحرك والكلام، لكن لا يزال الوقت متاحاً لفنان مخضرم مثل عثمان عريوات، كي يتدارك تلك السقطة، وقد انتقل إلى الإخراج، ويمحو من الذاكرة «عائلة كي الناس».

٭ كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول باديس لونيس:

    شكرا لك على هذا المقال الجميل أيها الجميل

إشترك في قائمتنا البريدية