«جزيرة» أم «عربية»؟ إلى أين يذهب المواطن التلفزيوني العربي؟

حجم الخط
0

كمواطن تلفزيوني مثابر على متابعة أخبار الحرب، بجبهاتها المختلفة؛ غزة، والضفة الغربية، ولبنان، وربما سواها، أحار فعلاً أين أجد الخبر الحق.
بشكل أساسي لا أنكر أنني من متابعي “الجزيرة”، هذه التي كرّست نفسها لسنوات طوال على أنها قناة الخبر. ليس في ذلك أي مديح، فهذا هو حيّزها المهني، الذي دأبت على تغذيته بكل ما يلزم من اهتمام وطواقم عمل، وانقسام الشاشة إلى شاشات حين يلزم الأمر، وقبل ذلك هي مكرَّسة بكل قوّتها لمنطقة الشرق الأوسط والأخبار المتعلقة بها. المساحة التي تعطيها لأخبار بلادنا لا نجدها في مكان آخر.
تقتضي الموضوعية، في المقابل، أن نرى كم أن إعلامييها، في معظمهم، مسيّسون، بل ومؤدلجون أحياناً، ومتحمّسون. وبالتالي غالباً ما نسمع صوتاً واحداً، لا تستطيع أن ترى شيئاً خارجه. أضف إليه رغبة بعضهم بتحويل التقرير التلفزيوني إلى أمسية شعرية تطغى عليها الخطابة الفاقعة، ونحسب أن هذه جناية ليس من السهل نسيانها، إذ سرعان ما شاع هذا الأداء، وسرعان ما باتت “الجزيرة” جُزراً.
أخذني الفضول نحو تتمة الخبر للذهاب إلى قنوات أخرى، فاخترت تلك الأقرب، “العربية” وتوابعها، التي ابتُكرت لتكسير الرؤوس. لشدّ ما أذهلني أداء مذيعاتها “العربيات” اللواتي يقرأن أخبار الحرب كما لو أنها برامج منوعات. إنهن يعشن بجوار الحرب بسعادة كاملة!
زاد الذهول أخيراً عند مشاهدة تقرير “أم بي سي”، الذي استثار حشود العراقيين فهبّوا لإحراق مكتب القناة في العراق، ومن ثم إعلان إدارة القناة إحالة المسؤولين عن التقرير للتحقيق. وهؤلاء، صانعو التقرير، يجب محاسبتهم أولاً على الأخطاء اللغوية الفادحة في كل سطر منه، قبل ملاحظة كم أن التقرير مصنوع للشماتة، ويحشر بشكل اعتباطي، وتحت تصنيف “الإرهاب”، كلاً من أسامة بن لادن والظواهري وخطّاب والزرقاوي والبغدادي وقاسم سليماني مع إسماعيل هنية ويحيى السنوار..
ثم، ويا للغرابة، منذ متى باتت “أم بي سي” تتدخل في السياسة! نعرف أنها قناة منوعات، أغان، دراما، برامج خفيفة،.. “العربية”، القناة الإخبارية، تجنح إلى التنويع، فيما تميل قنوات المنوعات إلى الإخبار.
وهنا لا نجد أن ما ورد في القناة، مهما كان لئيماً ومتقصِّداً الإساءة، مبرِّراً للحشد الشعبي العراقي لمهاجمة القناة وإحراقها، على أساس “باسم الشعب”، إنه الفعل الموازي تماماً لمهاجمة جيش الاحتلال الإسرائيلي لمكاتب “الجزيرة” في رام الله وإغلاقها بأمر عسكري، كما أغلقت من قبل في أراضي الـ48، والقدس. من المفروض أن الكلام، والخبر، والصورة، يواجَه بالكلام والحجة والصورة أيضاً.
إن خَطَرَ لك، زميلي المواطن التلفزيوني، أن تبتعد عن قطبي الإعلام العربي، إن جاز الاعتبار، فربما لن يفيد، لأن ما تبقّى هو إعلام حكومي محسوب ومراقَب بمئة منظار ورقيب، وهو، لفرط ما حَذَفَ أشياء خطيرٌ نشرُها بات بلا أخبار، بوضعية المزهرية، أو ببرامج عن عوالم الحيوان والنباتات. أو قد تجد نفسك أمام إعلام أحزاب وفصائل، بعضها جزءٌ من المشهد الحربي، ولا صوت هناك إلا للدعاية والبروباغندا الصافية.
هذه القنوات لن تفيد، إلا في حال كنتَ إعلامياً عليك أن تعزز الخبر الصحفي بوجهات نظر المتحاربين، بياناتهم وإحصائياتهم.
يحتاج قارئ الخبر العربي، أو مشاهِدُه، لأن يتحول إلى كائن عبقري، على معرفة عميقة بالأجندات المختبئة، أو السافرة، في أداء مختلف القنوات التلفزيونية والصحف، ثم أن يعرف كل نظام عربي، وماذا يريد، وما موقفه وتموضعه إزاء الأحداث الراهنة، وأن يتقن أيضاً قراءة صحف العالم، ما تمثّله، واتجاهات كتّابها ومحلليها، كي يقرر مدى الإنصاف والموضوعية في خطابهم، وهذه بالطبع لم يعد مجدياً الاطمئنان إلى سمعتها التاريخية كصحف كبرى تمثل سقف المهنية، فلقد أثبتت الحرب على غزة خصوصاً وقوعها في فخاخ مهنية كبرى، من بينها كيف صدّقوا وروّجوا على الفور لتلفيقات قطع رؤوس الأطفال والاغتصاب في السابع من أكتوبر.
من المفروض أن يبقى للمواطن جداراً أخيراً، يطمئن إليه عندما تغيب مصداقية ومهنية الجميع: وسائل التواصل الاجتماعي، هذه التي بات حتى الإعلام التقليدي يعتمدها مصدراً لأخباره. لكن، ولا بدّ أنكم عارِفون ومجرِّبون، حتى هذه الوسائل تم تطويعها أو إخافتها ومهاجمتها بجيوش الذباب الإلكتروني.
إلى أين نذهب؟ إلى أين يذهب الباحث عن الخبر “على حَبَّته” من دون زيادة، ولا نقصان، من دون كلمات مضللة، ومصطلحات متضاربة، وسياقات غير بريئة!
الحقيقة ضحية، وقبلها المواطن الذي سيكون مصيره قناة “البرامج التعليمية” (عادةً أكثر البرامج بؤساً في بلداننا)، أي في حُكم الغائبين، أو أنه سيتحول إلى ضحية من نوع آخر: كائن متوحش. فعندما تغيب المعلومات والحقائق والرأي الصائب لن تضمن لمن سيصفق المواطن في النهاية، إلى جانب من سيحمل السلاح.

كاتب من أسرة «القدس العربي»

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية