جسد السوري ونص الألم..

حجم الخط
0

تهز صور الأطفال السوريين الموتى بفعل السلاح الكيمياوي، كل متلق في إنسانيته، ليس لعجز المتلقي في الرد على إستغاثة المعتدى عليه، ومد يد العون إلى كرامته، التي انتفض من أجلها، بل لإكتشافه وجود كائنات بشرية تمارس طقوس التعنيف، بهذا الشكل الوحشي والهمجي على بشر أخرين، خارج كل الأعراف القانونية والأخلاقية.
صور عنفية، أخذت مع الأيام ميزتها السورية، لتُكشف عن نص كبير للألم، نصٌ، تعجز اللغة في التعبير عنه بمنطق دلالاتها، حيث الموت الحقيقي، ظاهر دون مواربة، أو مجازات أو كنايات أو مونتاج. موت يتصدر المشهد على وقع الأنفاس الأخيرة للضحايا العزل، المرتمين على أفواههم ووجوههم الباحثة عن الهواء، يغادرون حياتهم البسيطة لتكون رسالة رعب لغيرهم. رسالة، تُذكر بقوة الراعي وبطشه اللامحدود، والإيحاء بضعف الخصم وعجزه. مثلما هي رسالة إلهام، وتحفيز لعزائم الموالية، لتوزيع السكاكر وإطلاق الأهازيج، بعد أن شوشت كل الصور في أذهانهم وغرائزهم.
الصور هنا الآن، جسد المكان، والتعبير الأثير للفضاء العام، الحيوي باللحم والدم، ذاك الفضاء الذي استعمره البعث بمخياله الواهن على مدى عقود، بصورٍ وتماثيل وشعارات، غيبتّ كيانية المجتمع، وفخخت كل عناصر الصورة العامة بالهواجس الأمنية، وأعمت عين الكاميرا بالمخاوف الطائفية والعرقية والمذهبية، لخلق صورة مركبة ومعقدة، يدفع السوريون دمهم ثمنا لإعادتها إلى واقعيتها، إلى صورة الحياة، كي يخلصوها من واقعها، المليء باجواء التشفي والإنتقام، حيث تمرر فوق الاشلاء إشارات ‘النصر’، وتتراقص فوق الأجساد والرؤوس أحذية عسكرية، تريد أن تسحق المشهد العام بأكمله.
والحال، أن الدقائق المصورة، تختصر بتشويشها واهتزازاتها، صورة المعتدي ومنطقه النفسي، وعلاقته بضحاياه، ذلك المنطق المرتكز على تأكيد سلطته عبر إهانة جسد المحتج وتطويعه بالعذاب، كونه يتسبب بإثارة الاضطراب والفوضى في الجسد العام، المشخصن في ذات الزعيم وصوره، ‘المُجسدُ لتطلعات الأمة’ و’البنيان الذي تُعقد عليه الآمال’، ويستلهم المعتدي منه قوته وسلطته، ويتماهى مع صورة الزعيم، بكامل وجوده وكينونته، فهو الجسد العقلاني المقدس، لذا من الواجب تأديب جسد أي محتج ‘لاعقلاني’ مدنس، عبر إذلاله وتعذيبه وربما تصفيته، لأنه اختار وبمحض إرادته، الخروج عن طاعة ‘الجسد السلطاني العام’ واستحضر التعذيب لنفسه، بعد مطالبته بإسقاط النظام.
الصور هذه، وبكل بشاعتها، وأنقاضها المتداعية على رؤوس الأجيال السورية القادمة، تؤكد رغبة السلطة في مقاربة فعل التمرد والتظاهر مع فعل الموت، وفعل الإنصياع والخضوع مع البقاء على قيد الحياة، مثلما تبين إصرار السوريين على العيش بعيدا عن سلطان الخوف.
هي صور الألم، والتأمل في إنسانية البشر، قبل الحديث عن الهشاشة ‘الوطنية’ التي تجمع القاتل بالقتيل. هي وثيقة الأعزل وبرهانه الوحيد على موته، وتحولِه إلى رقم بين الأرقام المنسية وغير المنتهية. تلك الأرقام؛ التي لا تتعذب في ذاتها، ولا تهتدي إلى خانة البورصات و’المصالح الحيوية’ للدول الكبرى المتحكمة بمكونات الصورة الدولية.
ومع إشاعة العنف على مدى سنوات في سورية، تغيرت معالم ومكونات الصور، فبعد أن كانت الصور الأولى تزخر بوجوه متظاهرين سلميين، يغنون ويرقصون، ولا يغيب عن المشهد صور نساء وفتيات، جاءت الصور اللاحقة مشفوعة بمظاهر التدين حيث الحياة المحاصرة بحدود الدم و’الهويات القاتلة’، تستنبت ثقافة الموت في الواجدان والمخيلة العامة.
نعم، إنها الصور الأكثر فتكا بالكيان والمخيلة السورية، لا ترحم المستقبل، ولا تستفهم من الحاضر وهي تستحضر التاريخ بكل أوهامه وتناقضاته، حول المظلومية و’عقدة الضحية’ ورعب الإبادة، بعد أن تحولت الذاكرة اليومية إلى ثقوب سوداء تكرس صورة ذهنية/مذهبية خطيرة لكل طرف عن الآخر. القاتل ‘علوي’ والمقتول ‘سني’، أو العكس. صور تتداخل في البنية النفسية والمستقبلية، لابناء كل طائفة، دون إغفال سرديتها الخاصة لتاريخ، ما يزيد الشرخ بين أبناء الوطن السوري.
في النهاية، هي حرب الصور على الصور. حرب النظام من أجل السلطة وإعادة صورته وهيبته، في عقول وقلوب الناس، إلى المكان والزمان السابقين للانتفاضة السورية. حرب المعارضة في تدمير صورة النظام وبناء صورتها التي لم ترتكن إلى أي إطار بعد..

‘ كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية