جسر الأدب وغيره

في الآونة الأخيرة، كثر الحديث عن ترجمة الأدب من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى، ومن اللغات الأخرى إلى العربية، ثمة كلام كثير يقال، ثمة أسئلة ترسل إلينا ومطلوب الإجابة عنها، وإن كان الكاتب العربي من المحظوظين وترجمت له أعمال إلى أي لغة، حتى من تلك اللغات التي لم يسمع بها أحد، يريد الآخرون أن يعرفوا أصداء ذلك.
قديما كانت ترجمة الأدب عموما، جسرا مهما تعبر عليه الثقافات لتعانق بعضها، أي حين تقرأ رواية روسية مثلا، تتعرف إلى الحياة في روسيا أيام كتابتها، تتعرف إلى الأكل والشرب والملابس التي كان يرتديها الناس، والمواصلات التي يركبونها، وشخصيا تعرفت إلى كلمة: الحوذي، أي سائق العربة التي تجرها الجياد لأول مرة من رواية لديستويفسكي، أيضا الأفكار الأيديولوجية التي كانت سائدة وشكل الاقتصاد، كله تجده في الأدب الذي عبر إليك عن طريق الترجمة.
وإن كنت من القراء المداومين، أو لنقل القراء الشرهين الذين يتأثرون بما يقرأونه، ويتحولون هم أنفسهم إلى رواة لما كتبه الروائي، لن يعجزك أن تسافر بكل أعماقك إلى نيويورك مثلا، داخل رواية لبول أوستر، أو بول بيتي، وهكذا ينطبق الأمر على الآداب الأوروبية التي نقلتنا بسخاء إلى لندن وروما وباريس وغيرها من العواصم والأرياف في أوروبا بسبب كتاب عظماء مثل ديكنز وبيكيت وألبرتو مورافيا. بالطبع توجد معابر أخرى تسلكها الثقافات لتعانق بعضها، مثل معابر الرياضة، والاقتصاد والتجارة، والبروتوكولات الفنية والسياسية، لكني أرى الأدب دائما معبرا راسخا، لا يهتز بتغير الأفكار، أو بخصومات الشعوب، وكثير من دولنا لم تكن تحب الاتحاد السوفييتي، أيام الشيوعية، وتعادي الأمريكيين، لكنها لا تمنع الأدب. ربما لا يكون لدى الأدب أهمية ما، لدى الحكام، وربما حتى لم يقرأوا قصيدة لجبران أو رواية لليف تولستوي، أو ماركيز، لذلك لا يخطر الأدب على بالهم حين تسن الخصومة، وتأخذ مجراها.

وأذكر في رواية ساخرة لي، كتبتها منذ سنوات، أن الديكتاتور سأل وزير الثقافة الذي كان في الأصل حدادا، وعينه وزيرا، سأله عن رأيه في عدم تغييره، أو طرده من الوزارة في كل مرة تتغير ويخرج منها وزراء ويأتي آخرون، قال الوزير لأننا أصدقاء، فكان رد الديكتاتور وهو غاضب، لا توجد صداقة بين رئيس ومرؤوس، السبب هو أنني في كل مرة أغير فيها الوزارة، أنسى أن هناك وزارة للثقافة على رأسها وزير. الأمر قد يبدو تهكما مبالغا فيه، لكن لو ألقينا نظرة حقيقية، لما عثرنا على شيء أكثر جاذبية بخصوص الثقافة، إنها الحائط القصير بين الحيطان، والمادة التي يعتقد المسؤولون السياسيون، إنها بلا قيمة، وأشرت مرة إلى إلغاء الصفحة الثقافية في كثير من صحفنا التي تقشفت في السنوات الأخيرة، كما ألغيت أيضا مجلات ثقافية، كانت معروفة.

في النهاية أشير إلى ذلك الجسر العظيم الذي تم بناؤه قبل نهاية 2022، إنه جسر المونديال الذي نظمته قطر، وإن كنا نتحدث عن نقل المعرفة واحتكاك الثقافات، وتبادل الآراء في كل شيء، فقد تم ذلك على أكمل وجه.

أعود لمسألة الجسر الراسخ، وأتحدث قليلا عن جانبنا العربي، أي هل أدبنا العربي، سلك ذلك الجسر بالفعل وعبر بالثقافة العربية إلى بعيد؟، هل كان فعلا مادة يعتمد عليها في الاحتكاك بالشعوب، وملامسة إنسانيتها؟ أظن ذلك، وأظن أن الأمر أكثر أهمية من مجرد كونه أدبا كتبه عرب موهوبون أو غير موهوبين، ذلك أنه أدب متنوع بشدة، في كثير من التفاصيل، فأنت لا تنقل ثقافة بلد واحد، لكن عشرات البلاد التي تنضوي تحت لواء اللغة الواحدة، وكما أشرت قبلا، توجد تفاصيل مشتركة في الحياة اليومية، توجد حتى وجبات مشتركة، وأزياء مشتركة مثل زي المرأة في السودان وموريتانيا، وعادات مشتركة مثل عادة ختان الإناث في عدد من الدول العربية، لكن في النهاية ما هو مختلف، أكثر كثيرا مما هو مشترك، وشخصيا أستمتع جدا حين أقرأ رواية من موريتانيا أو ليبيا، أو السعودية، إنها تدخلني أماكن لا أعرفها ولم أكن أطمح لدخولها، تزودني بمعرفة كثيرة وخلاقة.

إذن نقل هذا الأدب إلى لغات أخرى، مفيد، لكن هل هو فعل إجباري، أو ضروري؟ بمعنى لا بد من ترجمة أدبنا حتى نفخر به، ونبتهج؟ لا أعتقد، فالقارئ المستهدف من العملية الإبداعية العربية، هو في النهاية القارئ العربي، ذلك الذي رضع اللغة وتربى عليها، وعلى الكاتب أن يفخر به وبوجوده قبل أن يفخر بقارئ بعيد لا يعرف عنه شيئا، ولا يعرف إن كان كتابه الذي نقل إليه قد تمت قراءته، وتم فهمه أم لا؟ بالطبع لا يعني هذا رفض الترجمة، وإغلاق الباب في وجه من أراد نقل الثقافة العربية إلى الآخر الذي لا يستوعبها، وإنما عدم التشنج والإحساس بالغبن، إن ظل الكتاب العربي، كتابا عربيا خالصا، لم ينقل للغة أخرى. وأريد هنا أن أشير إلى أن بعض اللغات فيها قراء قليلون جدا للأدب العربي إن ترجم، وحتى دور النشر التي تترجم لكاتب عربي تخبره صراحة أن عدد النسخ التي يتوقع قراءتها من كتابه لن يتعدى الخمسمئة نسخة، وإنهم يترجمون له نوعا من المغامرة وإضفاء صفة التنوع على إصداراتهم.
في النهاية أشير إلى ذلك الجسر العظيم الذي تم بناؤه قبل نهاية 2022، إنه جسر المونديال الذي نظمته قطر، وإن كنا نتحدث عن نقل المعرفة واحتكاك الثقافات، وتبادل الآراء في كل شيء، فقد تم ذلك على أكمل وجه. لن نقول إن الثقافة غير ضرورية، ولن نقول إنها لا تحتاج للمساعدة من أجل أن تساعد الشعوب، لكن نأمل كالعادة في وجود مجتمعات قارئة، وطموحة لتقرأ أكثر.

كاتب سوداني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سيف كرار... السودان:

    من أعظم ما ترجم الي اللغة العربيه الأعمال الأدبية للامبراطوريه القيصرية الروسيه، أو المكتبه الروسيه لتلك الفتره… كم هائل من عالقه الروائيين، فصلت لنا ثقافه كان لها تأثيرها الواقعي في أعماق انسان الشرق الأوسط والعالم والفضاء الكوني…

إشترك في قائمتنا البريدية