لا يمكن أن تكون إهانة أو إتلاف أو حرق كتاب مقدس، أي كتاب مقدس لأي ديانة كانت، صورة حضارية أو أخلاقية من صور الاحتجاج أو طريقة راقية من طرق إبداء رأي أو وجهة نظر. ليس لهذا الفعل مغزى فكري أو نتاج حقيقي، ليس فيه إنجاز مثمر، كما أنه لا يفعِّل أي درجة من درجات تغيير الرأي، فأصحاب الديانة المعنية لن يتفكروا في حقيقية ديانتهم أو الفحوى الفكري لكتابهم المقدس لأن أحدهم قام بإتلافه أو حرقه. هذا فعل عاطفي سلبي، دافعه غضب مجنون خارج عن السيطرة، ومحركه مشاعر هوجاء بدائية لم يتعرض صاحبها لأي درجة من درجات التمدن والتحضر، كما أنه دلالة على أن الفاعل لا يمتلك أي ذكاء عاطفي أو قدرة فكرية ومشاعرية في التواصل مع الآخرين.
يتفق على هذا التقييم، في تصوري، معظم البشر الأسوياء (مع التحفظ على اللفظ النسبي)، إلا أنه رغم هذا الاتفاق المنطقي فهو لا يزال غير كاف في الثقافة الغربية لحجب الرأي أو لاتخاذ أي إجراء لمنع التعبير عنه. هذا الموقف عصي على الفهم والهضم عندنا، ذلك أننا نؤمن أنه «لا يصح إلا الصحيح»، أن الحق أوحد والحقيقة مطلقة، وأن للأمة قيماً وأخلاقاً و«ثوابت» لا بد من حمايتها. نحن نؤمن، بعمق وبقوة، بالسلطة الشمولية، بدور الأب الحامي الذي لا بد أن يدفع عنا الشرور وأن يعاقب المذنب وأن يدفع عن الأخلاق والقيم والمُثل. وبالتبعية، وإسقاطاً على الزمن المعاصر، نحن نؤمن بوجوب أن تحمينا سلطتنا، أن تدافع حكوماتنا عن ثوابتنا وقيمنا، أن يضرب القانون بيد من حديد كل من يخالف ويختلف مع قواعدنا السلوكية.
هذه الإيمانيات المتجذرة عميقاً في وعينا وكأننا توارثناها بيولوجياً في خلايا أجسادنا تخلق مسافة كبيرة بيننا وبين الغرب الذي تخطى فكرة القيم والثوابت إلى فكرة المتغيرات والتجريب المستمر. نحن نعتقد بالثابت الباقي غير المتغير، وهم يعتقدون بالزائل المتحول دائم التغيير، نحن نؤمن بالسلطة وقوتها علينا ووجوب حمايتها لنا وهم يؤمنون بالشعب وتوظيفه للسلطة ووجوب إتاحتها الحريات لكل فرد فيهم ومن ثم محاسبتها حين تقصيرها في هذه الإتاحة. هذا الاختلاف الفلسفي الكبير يخلق فجوة عميقة بيننا تجعلنا غير قادرين على فهم السلوك، فتجدنا نتساءل، كيف يمكن لمحكمة أن تصدر قراراً قضائياً بإتاحة فعل حرق القرآن لتمنح بعدها الشرطة السويدية تصريحاً بتنظيم هذا الاحتجاج وكأن مؤسسات الدولة بذلك تحمي هذا المعتوه وتشد على يده وتقبل بفعله؟
ما لا نفهمه نحن بسبب الاختلافات المذكورة آنفاً والفجوة التي خلقتها هذه الاختلافات، هو أن الحكومة حقيقة لا تملك شيئاً أمام فعل «سلمي» للاحتجاج مهما بلغت درجة رخص التعبير عنه. أعرف أن فكرة أن «الحكومة لا تملك شيئاً تجاه…» هي فكرة غريبة في ثقافات «تمتلك فيها الحكومات كل شيء تجاه…»، إلا أن العقل الغربي ينظر للحكومة على أنها إدارة، كل من فيها موظفون يخدمون الشعب، والقانون أداة تستخدم للحماية والذود عن الحريات قبل أي وكل شيء آخر، وهذا منظور غريب علينا تماماً. وعليه، تجدنا دائماً نتوقع ونطالب الحكومات والقوانين الغربية أن تتفاعل مع الأحداث كما تتفاعل حكوماتنا وقوانينا، وهذا ما لن يكون أبداً.
أن تصدر المحكمة حكماً قضائياً يبيح للمحتج أن يعتصم ويحتج بأي وسيلة سلمية كانت (أي أي وسيلة ليس فيها إيذاء جسدي لآخرين) لا يعني أن المحكمة أو قضاتها أو حتى الشعب الذي سيتفاعل مع آثار الحكم كلهم موافقون على الفعل وأسلوبه ومعناه، إنما هم جميعاً يبتلعون رخصه ورذالته في سبيل تحقيق الهدف الأسمى لحماية الحريات. وحقيقية، وأبعد من ذلك، لا يملك أي منهم، حكومة أو قانوناً أو شعباً، أصلاً حق تكبيل يد المحتج أو معاقبته على غبائه، كما ولا يمتلكون حق تهذيبه أو إعادة تربيته؛ فالحرية محمية عندهم أكثر حتى من الثوابت والقيم والمثل ما لم تصل ممارستها حد الإيذاء الجسدي. كما أن محاربة أي من ذلك، أي من الغباء أو الرخص أو الانحدار، يتطلب أولاً تعريفات واضحة ومحددة لهذه المفاهيم حتى يستطيع القانون تعريفها، ومن ثم تحديد مؤشراتها ومن ثم تحديد عقوبات لها، وهذا ما يستحيل تماماً مع هلامية هذه الكلمات ونسبية أفكار ومشاعر البشر تجاهها.
لا نغفل هنا واجب الدولة في حماية البشر على أرضها من مظاهر الكراهية والتحريض عليهم، ذلك أن هذه مظاهر تنطوي على إيذاء جسدي قد يصل حد أن يكون جمعياً؛ أي تجاه مجموعة كاملة من الناس، لكن الكراهية والتحريض يختلفان في عرف الغرب عن نقد الدين أو الاحتجاج على تعاليمه، ترفعت الوسيلة أو الأسلوب أو رخصا، فإذا كان النقد أو المظهر الاحتجاجي موجهاً لفكرة أو كتاب أو تعاليم فلسفية فهذه لا تعد، بالفهم الدقيق، كراهية أو تحريضاً، فهذان الأخيران يتشكلان إذا توجه خطاب الكراهية والتحريض تجاه البشر بحد ذاتهم؛ أي تجاه «المسلمين» مثلاً وليس «الإسلام»، أي أن يكون الدفع بإيذاء البشر المسلمين أو عزلهم أو التعنصر ضدهم، وهذا فعل مختلف تماماً عن نقد كتاب أو فكر أو فلسفة بأي صورة محمودة أو قبيحة كانت. التحريض على البشر هو فعل كراهية يتطلب التدخل القانوني. نقد فكرة والثورة عليها بل وحتى الاستهزاء بها هو فعل حرية رأي لا يتطلب أي تدخل قانوني سوى بحمايته في الواقع، هكذا يتفاعل الغرب مع ويفرق بين الصورتين.
لست هنا أدعو للقبول بما حدث أو لعرقلة الاحتجاجات السلمية تجاه الفعل الدنيء لحرق الكتاب المقدس، فرد الفعل حرية تعبيرية كذلك يجب توقعها وحمايتها، ولربما من واجبنا كلنا، مسلمين وغير مسلمين، الإعلان عن تقززنا الإنساني والمنطقي من هكذا تصرف رخيص. إلا أنني أحاول فعلياً أن أضع جسر خشب فوق الفجوة العميقة بيننا وبين الثقافة الغربية، علّنا نتوقف عن الشعور بأننا مستهدفون دائماً وأبداً، ونبدأ حقيقة بفهم الدافع وراء هذه «الأريحية» الغربية في التعامل مع ما يبدو لنا كبريات المصائب وعظائم الإهانات. لا بد أن نفهم أن الموضوع ليس «شخصياً عربياً أو إسلامياً». ببساطة، المحاكم والحكومات الغربية لا تحاكم ولا تعاقب كل حقير أو غبي التصرف؛ أولاً لأن الغباء والحقارة نسبيا المعنى، وثانياً لأنهما يدخلان في حيز حرية الرأي والمسلك، وثالثاً لأن المحاكم والحكومات لا تربي ولا تعلم الأخلاق ولا تنشر التدين وليس لها لا سلطة ولا مسؤوليات عقائدية لا من قريب أو من بعيد، هي إدارات تنظيمية تقف حق حماية جسدك وحريتك.
وكما أننا لا نفهم أريحيتهم، هم كذلك لا يفهمون غضبتنا. الغرب مثلاً بحد ذاته عنيف النقد للمسيحية والسخرية من رموزها، وصولاً إلى المسيح ولكتابه المقدس بحد ذاتهما، كما ولم يسبق للغرب مثلاً أن كان له رد فعل على ما نعلم أبناءنا في المدارس حول المسيحية وتحريف كتبها وتعاليمها، كما أنه لم يكن لهم أي ردة غاضبة نحو الطعن المستمر بهم وبدينهم من على بعض المنابر الإسلامية وفي الكتب العقائدية والبرامج الإعلامية. الموضوع، بالنسبة لهم، لا يأخذ منحى شخصياً، فهم يعرفون أنهم لا يمتلكون هذا الدين لهم وحدهم، لذا هم ليسوا منوطين بالدفاع عنه طوال الوقت، كما أنهم يقدسون حرية الرأي في الحيز العام أكثر مما يقدسون أديانهم في الحيز الخاص. وعليه، هم يتعاملون معنا من هذا المنطلق فيما نحن نتعامل معهم من منطلقاتنا الراسخة بوجود حق مطلق أوحد وعقيدة لا يجب أن يطالها نقد ومؤامرة تحاك ضدنا طوال الوقت، وأولياء وأوصياء يجب أن يضربوا بيد من حديد على كل من يخالف الرأي، دع عنك من يتجرأ بهكذا فعل هابط مريض. يبقى أن نقول إننا لسنا ملزمين بتفهم مواقف الغرب ولا بالقبول الصامت بأفعال بعض منهم، لكن ردود فعلنا المنطلقة من نظرية المؤامرة لن تفيد مطلقاً، وإصرارنا على المطالبة بتكميم الأفواه وإغلاق الصحف ومعاقبة الأفراد ومنع الاعتصامات والاحتجاجات، ببساطة، لن يكون أو يتحقق أبداً.