نحن دائما بحاجة ماسة إلى تملك المعنى، بوصفه الطريق، كما بوصفه الخطو، اللذين دونهما معا سنكون في حكم اللامكان المحيل على عدم طارئ، كما أننا سنكون حتما في حكم «اللانحن» حيث لا وجود للذات، ولا للفضاء الذي يحتمل أن تمارس فيه هذه الذات رمزية وجودها. وضمن هذا التصور، يبدو كما لو أن المعنى هو الأصل في إمكانية حضور مستويات أساسية من مقومات الكينونة.
ربما بسبب ذلك، كان الموت هو الخاتمة الطبيعية لأوجه معينة من الأوجه اللامتناهية التي يتوزع عليها المعنى، كي تشرع بدايات أخرى من هذه الخاتمة في التشكل، وهكذا دواليك. تماما كالأفول، الذي هو إشارة ضمنية لاحتجاب قبائل الضوء.
فهل يعني ذلك بالضرورة، أن قدر الكائن يتمثل في تكريس حياته لمتعة تقصي أثر المعنى؟ أو درءا لمحنة الرضوخ لسلطته، التي لا مجال معها للكشف العشوائي عن هوياته أو مواقعه؟ لاسيما وأن المعنى لا يطرح ذاته كإشكال يلزم الشرائح المعنية كافة بمقاربته فكريا ونظريا. باعتبار أن هذا الإلزام – إن صح القول – يقتصر موضوعيا على دوائر جد ضيقة، تنحصر عادة في النخب التي تشتغل على إشكالياته ضمن اختصاصاتها القطاعية. غير أن وجوده المركزي بوصفه إشكالا فكريا ونظريا داخل حلقاتها، لا يعني في المقابل، انعدام الاهتمام به في الفضاءات العامة، بل عكس ذلك، إنه يحتل حيزه الملموس، لكن في سياق إبدالاته المتعددة والمتنوعة، المتواضع عليها في الثقافات الشعبية والجماهيرية. وهي إبدالات تحيل بشكل غير مباشر عليه.
وتلك هي إحدى أهم سماته التي يتميز بها، سواء داخل دوائر الاختصاص المغلقة، أو خارجها، أي حيث تتشابك أطراف الفضاءات العامة وتتقاطع. وفي خضم هذه التشابكات وهذه التقاطعات المتفرعة والمتشعبة، يتناسل المزيد من الإبدالات، ما يضاعف من شدة انفلاته والتباسه، كي يظل محتفظا بغموضه الكبير. إنها مفارقة الواحد الذي تنتظم داخله الحقول المعرفية والحياتية كافة، التي يتردد عليها الكائن، مجبرا أو طوع إرادته. ذلك أن هوية المعنى في حقول البحث الفيزيائي، تختلف عنها في حقول البحث الكيميائي، أو الرياضي، والطبي، كما أنها تأخذ أبعادا مغايرة في مجال العلوم الإنسانية، والفنون، ومختلف الأجناس الإبداعية، حيث يستقل كل مجال بقوانينه وإوالياته القائمة الذات. والظاهر أن المعنى بقوة هذه الاستقلالية، يتخلص شكليا ومؤقتا من أحادية جوهره المحيلة عليه، كي يتحول إلى جمع تتوزع أبعاده على الجهات التي لا يحدها قول أو تخمين. ولعل أكبر احتفاء يمارسه المعنى في شأن هذا التوزع والتعدد، هو ذاك المعبر عنه في مقتضيات الحياة العامة التي تمعن في تشظيته وتفكيكه، بالنظر لكونها نهبا لكل أنماط الكوارث والفواجع الفردية والجماعية، ما يحول دون تبين الحد الأدنى من سماته وملامحه.
ومن المؤكد أنها الوضعية التي تتفاقم معها حالات الإحساس باليأس، وتجذر أطوار العبث واللاجدوى. كما أنها الوضعية ذاتها التي تجد فيها الأعمال الأدبية والفنية ضالتها، باعتبارها الأكثر قربا من هذه الفضاءات، والأكثر ولعا بما يتفاعل فيها من مواقف وحالات، فكل من النصوص الإبداعية والفكرية، تتطلع بشكل أو بآخر، إلى مطاردة هذا الكائن المنفلت، وتعقب أثره الخبير بتقنيات التمويه والتضليل، حيث يمكن في هذا السياق الحديث عن تقنيات اصطياد طيف مسكون ومهووس بذائقة اغترابه، بمداهمته في اللحظة التي يسهو خلالها عن ممارسة فعل التخفي. حتى ليمكن القول، إن طرح إشكالية اللامعنى الحاضرة بقوة في خطابات ما بعد الحداثة، ليست في الواقع سوى صيغة محتملة للإيقاع بالمعنى.
العالم هو هذا النص المعروض تحت ناظريك، وبما أنه كذلك، فهو أيضا تحت ملكيتك التي لا ينازعك فيها أحد، بانتظار أن يحدث ما يجعله لاحقا في ملكية قراءة أخرى محايثة أو مضادة.
تقشير الهواء إن أمكن، بحثا عن الجوهر المستتر تحت لحائه، وهنا تحديدا يتعلق الأمر بالتمرس على لعنة التطريس، أو بالأحرى، على لعنة المحو، كي يكشف الأثر المطلسم عن أسماء ذاكرته وأطيافها. وليست لعنة المحو في السياق الذي نحن بصدده، سوى ذلك الاجتثاث المتوحش، للأحكام المتعالية الضاربة بجذورها في تربة الروح. لا فرق في ذلك بين الخوارزميات الرياضية، ومثيلاتها الإبداعية. وبقدر ما تعلو همة البحث /المحو، بقدر ما تتاح فرصة الكشف والرؤية. يتحقق ذلك، عبر تتالي مكابدة الملء والتفريغ للشيء ذاته، كما لمغايره، حيث ينتبه الافتراض أو الظن، إلى «وهم» ما سبق أن رأى فيه «الحقيقة» التي لا تساورها ذرة من لبس أو غموض. فعبر لعبة التفريغ /المحو، والملء/الكتابة، يمكن الاهتداء إلى التمفصلات المتخفية بين الطبقات المتناضدة لما هو قيد الملء والتفريغ.
إنطاق المعدن بما فيه، تكليمه، وتوريطه إن أمكن في هفوة البوح. وهكذا سنعلن تلقائيا عن تموضعنا المعرفي في الجهة المضادة لمشيئة التكريس، التي ليست في نهاية المطاف سوى مشيئة تعميم ما لا علم للمعنى المستتر به. لكن غير بعيد عن المقام الذي نحن بصدده، ثمة إرادة خرقاء لتلبيس أشياء العالم جلابيب معانيها. فالإرادة ذاتها، لا تحتمل أن تكون حصتها خاوية الوفاض من مغنم المعنى. لذلك، فهي غير معنية تماما بمقالبه الدلالية. كما أنها غير معنية بمدى استجابته لطبيعة القضايا المجتمعية أو الفكرية المطروحة عليها، والممسكة بتلابيبها. إذ يكفي أنها تمتلك ما يكفي من القناعات والإواليات الذاتية، التي تمنحها الحق في إنتاج ما تتطلع إليه من باقات المعاني وأشواكها.
تقول ما اعتبرناها «إرادة» خرقاء على سبيل المجاز أو التلميح:
العالم هو هذا النص المعروض تحت ناظريك، وبما أنه كذلك، فهو أيضا تحت ملكيتك التي لا ينازعك فيها أحد، بانتظار أن يحدث ما يجعله لاحقا في ملكية قراءة أخرى محايثة أو مضادة. أما وهو تحت ملكيتك، فأنت وحدك المطالب هنا والآن، باستنتاج معناه، على ضوء تبريرك المعرفي أو الجمالي الخاص بك، والمنسجم مع قناعاتك المستقلة والمنزاحة عن أي تدخل آخر محتمل. ضمن هذا التوجه الذي نعتبره إسقاطيا وبراغماتيا بامتياز، تصبح قراءة العالم، مجرد ذريعة للاستئثار الذات بتكريس رؤيتها الفردية والخاصة للمعنى، وهو النهج المتبع عادة من قبل السلط العليا، فعلية كانت أو رمزية، حيث تختزل المرجعيات ومهما تعددت وتناقضت، في القرائن المحيلة على الشيء المراد تلميعه ومركزته في الوعي وفي دائرة الاهتمام.
إنها استراتيجية إكراه الآخر على الاقتناع، ليس بالمعنى المضمر في النص، لكن بـ»معنى» الخطاب الشخصي والأحادي البعد، الذي به تتشكل هوية هذه الاستراتيجية، ذلك أن آلية اشتغالها، هو تصنيعها للمعنى الخاص بها. الشيء الذي لن يتحقق إلا في حالة اقتناعها قبل غيرها بما تعتبره معنى. الشيء الذي يستدعي حتمية تأجيج العنف السجالي المؤهل وحده لتطبيق خطة الاستراتيجية، بما هي خطة إقناع. ولعل أقرب منطلق في ذلك، هو الأكثر بعدا عن دائرة المعنى. كلعبة التشكيك في مصداقية كل السلط التي يمكن أن يستقوي بها الآخر من أجل الطعن في الأفق المستشرف من قبل هذه الاستراتيجية، فضلا عن الإثارة الممنهجة والعشوائية في آن، لوابل من الإشكاليات التي تستدرج الآخر إلى ما يعتبر بؤرة تشكل المعنى.
من هنا تأتي ضرورة التفكيك، الذي يفترض فيه أن يطال مجموع التفاصيل المؤسسة للصورة. بما في ذلك حقائقها الموضوعية التي قد تتحول هي أيضا إلى عائق يحول دون الذهاب إلى مكمن المعنى.
إنه التفكيك الجذري، المحتفي بالعابر، وبالمنسي وبالمفرغ من دفء الدلالة وحميميتها، من أجل إحداث ثقب في الجدار. ذاك الذي يتخفى المعنى خلفه، وهو محروس كالعادة بأطياف أو أشباح لا معناه.
شاعر وكاتب من المغرب
ما هي أولوية اللغة، هل هي وسيلة التوضيح، أم هي وسيلة التضليل، إلى الإنسان والأسرة والشركة، بعد قراءة عنوان (جلابيب المعنى وأقنعته) الذي نشره المغربي (د رشيد المومني)، في جريدة القدس العربي، البريطانية، بالذات، والأهم هو لماذا، وما دليلي على ذلك؟!
على أرض الواقع، عندما يكون الفكر/الفلسفة شيء له علاقة بثقافة الأنا، فهذا شيء منطقي أو موضوعي،
ولكن اللغة، لا تكون لغة، بدون إتفاق ثقافة الأنا وثقافة الآخر على معنى المعاني للكلمة، وهيكل الجملة، في (الحوار المباشر) أو من خلال الآلة، في أجواء الحياة عن بُعد، قبل أو أثناء أو بعد (كورونا)،
لرفع أي سوء فهم، للوصول، إلى إتفاق يمكن (تدوينه)، في حكمة أو عقد، يمثل ثقافة النحن كأسرة/شركة للإنتاج والتبادل (التجاري) الإنساني،
بداية الإشكالية هي عقلية (التحايل/الغش/الفساد)، في استخدام اللغة بلا مصداقية، من أجل التعدي، أو الحصول على الخُمس (بلا مقابل)، إلى (آل البيت)، كمُمثلي (شعب الرّب المُختار)،
بحجة أن الوطن يُمثّل رب الدين، ومن هنا تفهم لماذا الملكة، في بريطانيا، هي رأس الدين/الكنيسة،
ولكن ما فات مناهج تعليم دولة الحداثة، أن لغة القرآن وإسلام الشهادتين، ليس فيها رب، أو رجل دين أصلاً، والعمل الخيري فيها، أساسه مفهوم الوقف، لأن لا تحتاج إلى دفع المال عند زيارة أي (جامع) من أجل صلاة الفروض الخمس (يومياً)،
كما هو حال بقية الأديان، التي يجب أن تدفع فيها عند كل زيارة، لتغطية مصاريف رجال الدين والكنيسة، الملكة (آل البيت)،
الآن من ضحك على من، أو من كان أخبث مِن مَن، بداية من الأردن أو المغرب، حيث تم حجز كرسي السلطة والإدارة والحوكمة إلى ممثلي (آل البيت)، بينما في الكيان الصهيوني، تم حجز كرسي الوظيفة إلى (شعب الرّب المُختار)، كتطبيق عملي لمفهوم التمييز الطبقي، العنصري، الفاشي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أليس كذلك، أم لا؟!??
??????