فور إثارتنا للإشكاليات المتمحورة حول آليات اشتغال التجارب الإبداعية، خاصة منها الشعرية، سوف يطالعنا ذلك التجاذب أو التفاعل النظري، القائم بين ثنائية الواقع والمتخيل، المعتمدة على بناء عوالم هذه التجارب. وهي الثنائية التي يتعامل معها كل من المبدع والباحث، بوصفها الخلفية الضمنية المؤثرة في استحضار توجهات فكرية وجمالية، قد يسودها التكامل والائتلاف، بقدر ما قد يسودها التعارض والاختلاف، انسجاما مع طبيعة القناعات المؤطرة للفعل الإبداعي، أو النقدي. وفي جميع الأحوال يظل سؤال الواقع محتفظا بمركزية حضوره، بوصفه قطب الرحى الأكثر إلحاحا، حيث يهمنا ضمن هذا السياق، الإحالة على التوجهات المتسمة بمواقفها التبخيسية، تجاه أي إنتاج إبداعي أو نظري، يتخذ من الواقع إطارا موضوعيا لاشتغاله.
ومن المؤكد أن الغاية من هذه الإحالة، لا تعني بالضرورة تبني موقف مضاد من المكون التخييلي على حساب ترجيح كفة الواقع، بقدر ما تعني وضع طرفي الثنائية في سياقهما الطبيعي، وذلك بالنظر لاقتناعنا المطلق، بالأهمية القصوى التي نوليها لهما معا، سواء من جهة صياغة العمل الإبداعي أو مقاربته. والمراد بالسياق الطبيعي هنا، هو الدعوة إلى رد الاعتبار إلى مفهوم «الواقع» ضمن الشروط النظرية والأساسية التي يقتضيها تفاعله مع التجربة الإبداعية ككل. ذلك أن التوظيف الآلي الذي يتعرض له هذا المفهوم من قبل القرائح المبتذلة والجافة، هو أحد الأسباب المركزية المؤدية حتما إلى تشويه دلالته وتحجيم أبعاده، ما يؤدي إلى استبعاده بشكل تام من قبل التجارب المغرقة في جماليتها، خاصة حينما يتم الترويج له من منطلقات أيديولوجية، تميل إلى اختزاله في معادلات خشبية، قابلة للاحتراق السريع، حال وضعها على محك الرؤية الإبداعية والجمالية، التي تضيق بديناميتها خطوط السكك الأيديولوجية، المصابة بأحادية الرؤية. والحال أن الواقع حينما ينظر إليه في حركيته النابضة بالحياة، يتحول إلى سلطة حقيقية ليس للأثر الإبداعي أن يتنصل من مشروعيتها. مع التأكيد على أن كشف الغطاء عن هذه الحركية، والسعي إلى التفاعل معها، هو مربط الفرس في كل رحلة معيشة أو متخيلة داخل فضاءات الخلق والإبداع.
ويتعلق الأمر هنا بجدوى امتلاك ما يكفي من التأهيل التأملي والجمالي لتمزيق الحجب، التي تحرص رتابة العادات وسكونية الأعراف على نشرها بين الوعي الفردي والجمعي، ومختلف التمظهرات التي تتجلى فيها حركية الواقع. باعتبار أن الدور المنوط بإملاءات العادات والأعراف، يتمثل أساسا في إنتاج بنيات ذهنية مجبولة على الخضوع التام، والإذعان السلبي لثوابت ومنظومات قيمية، من شأنها إكراه الذات على التقيد بقوانين دوغمائية، تحول دون اختراق حجب الظاهر، بحثا عن جوهر علاقاته المتخفية، والمؤثرة عمليا في إنتاج وبلورة ما يمكن اعتباره بشكل أو بآخر، «حقائق» تظل دوما بحاجة إلى المزيد من الاستيعاب، والفهم، والتأويل.
بمعنى، أن الكفاية التخييلية، تنهض أساسا على أرضية التمثل العميق للمعيش، للمرئي، وللملموس، بما هي عناصر مؤثرة بشكل كبير في نسج شبكة الواقع، حيث يمكن، ومن هذا المنطلق تحديدا، اعتبار التمثل العميق لإواليات اشتغال الواقع، أحد أهم الروافد التي يمتح المتخيل من دفق صبيبها. فالتخييل يرتقي بآليات اشتغاله، حينما يتخذ من الواقع سندا له، انطلاقا من نزوعه الممنهج إلى التقاط الجوهري والأساسي فيه، إلى جانب كشفه عن البؤر التي يتفجر منها ضوء القول.
ومن المؤكد أن طموح الكائن إلى إغناء طبيعته الإنسانية، يمر عبر مواجهته المعقلنة، لكل السلط التي تحول بينه وبين حقه المشروع في اقتراح الإبدالات المساهمة في تفكيك الواقع، وفي تطويره، وإغناء مسالكه وآفاقه.
ما يعني أن التنكر المطلق له، ليس في نهاية المطاف سوى الإقرار الضمني بالعجز عن تمثل ما يصطخب فيه من حالات ومواقف سيكولوجية، ومجتمعية، وفكرية، بفعل الافتقار إلى تلك الرؤية التركيبية، التي تقود الوعي الفني والجمالي، إلى ضبط ما يتواشج فيه من مقومات، يعود لها الفضل في إبداع الأعمال الكبيرة. وهو الرهان المركزي الذي تطالب فيه الذات المبدعة بإعداد ما يكفي من الزاد النظري والمعرفي، التي يمكن اختزالها في ضرورة الحد من ضراوة التعميمات، وتجاوز ما تمارسه على الإبداع من تعمية، تصرفه عن متعة النظر إلى تلك الخيوط الناظمة لحركية التفاصيل، بشقها المرئي واللامرئي، خاصة أن التعميم، هو الإطار المشترك، الذي تندرج فيه أغلب التعاقدات المجتمعية، المؤثرة بشكل مباشر في توصيف واقع، هو مهيأ سلفا لأن يكون موضوع تفاعل نفعي، وتبسيطي، من قبل الجميع. وكما هو معلوم، فإن هذا الإطار المبسط الذي يهيمن فيه الملمح الظاهري على أي باطن محتمل، هو الأكثر حضورا في الكتابات التسطيحية، التي يفقد معها مفهوم الواقع كل ما يمتلكه من إشعاع ومن جاذبية، ويحوله تلقائيا إلى لعنة لا يمكن التخلص من تداعياتها إلا بالإقبار التام والمطلق، لكل ما يمت إليه بصلة.
في حين، ثمة أكثر من إمكانية فكرية وجمالية، لإدراج كل الإبدالات المنهجية المتحفظة من مقولة الواقع، ضمن الخانة المنفتحة على إشكالياته، من منطلقات نظرية، قوامها المساءلة الجذرية لتمظهراته وتجلياته. وهي المساءلة التي يترتب عنها انبجاس واقع جديد ومختلف، هو امتداد للفعل التخييلي، باعتبار أن هذا الأخير، بمثابة مختبر يتحقق فيه شرط إخراج الواقع المتخفي من صلب الواقع المسكوك والجاهز. ما يدعونا للتأكيد بأن لا وجود لمتخيل يستقل ببنيته الكلية عن بنية الواقع المعيش، خاصة حينما تحجب سماواته أدخنة الحروب، التي تلهبها نيران الأحقاد الحضارية ومكائدها.
وحتى في حالة تسليمنا باحتمال استقلالية بعض بنياته ومكوناته، عن الإطار العام الذي يندرج فيه، فسيكون مرد ذلك إلى أن الأمر لا يتعلق بشرط هذه الاستقلالية، بقدر ما يتعلق بنسياننا لها مؤقتا، في خضم اندماجنا المطلق مع إكراهات الآني والظرفي، التي تحول دون معاينتنا لها وتحيينها. ولعل أهم خاصية تتميز بها الطفرة الحضارية في المجتمعات المتقدمة، هي تلك المتمثلة في قدرة مختلف شرائحها، على تملك مختلف الإواليات المعقدة، والمؤهلة لاجتراح جوهر الحركة الكامنة خلف ما يوهم ظاهرها بأنه الواقع الفعلي والحقيقي، ولا شيء آخر عداه. علما بأن هذا الاجتراح، لا يمكن أن يتحقق إلا بالتعميم المنهجي للمعرفة، بما هي وسيلة إجرائية لضبط إواليات الواقع واستيعابها. أولا، بوصفه صيرورة متحركة في جميع الاتجاهات الممكنة والمحتملة، مع اعتباره شبكة علاقاتية، يتداخل ظاهر نسيجها بباطنها. وثانيا، بوصفه مادة قابلة للمساءلة، في استقلالية شبه تامة عن مختلف التوجهات السلطوية، التي تجبر الذات على تبني رؤية محددة ونهائية، لمفهوم الواقع. إذ كلما ألقى ليل السلطة بكلكله على عقول ونفوس العباد، إلا ودب الفتور في مفاصل الملكة الإبداعية والنقدية، وأفسح المجال للرؤية الأحادية البعد، كي تحكم قبضتها على اللحظة، سواء في تفاعلاتها المجتمعية، أو الجمالية.
ومن المؤكد أن طموح الكائن إلى إغناء طبيعته الإنسانية، يمر عبر مواجهته المعقلنة، لكل السلط التي تحول بينه وبين حقه المشروع في اقتراح الإبدالات المساهمة في تفكيك الواقع، وفي تطويره، وإغناء مسالكه وآفاقه. وهو السياق الذي يساهم إيجابيا في توسيع فضاءات اشتغال الكتابة، كلما أمست متحررة من بؤس الواقع المتكلس والجامد، أي، كلما أمست منذورة للارتقاء به، إلى احتمالاته الممكنة، والمستحيلة في آن.
شاعر وكاتب من المغرب