جمرات الذاكرة

ترجمة وتقديم: عبد الجواد العوفير ٭٭

شاعر وروائي من مواليد 20 يونيو/حزيران 1945 في مدينة مارساي الفرنسية. عاش على هامش الأدب بعد إصداره عدة دواوين شعرية لم تلق رواجا لافتا. حقق شهرته كروائي للقصص البوليسية، لكنه لم يكن راضيا عما حققه، واعتبر نفسه شاعرا في كل أعماله. يحتفي جان كلود في قصائده بالطبيعة كقيمة أساس، تسكنه رائحة القمح الأصفر وأزهار الحقول السرية. هرب من كل المدارس الشعرية وأسس لنفسه طريقة خاصة لا يمكننا من خلالها تصنيفه، فهو مزيج من السيريالية والرومانسية الحديثة، والكثير من الأمل والحكمة. اختار في أواخر حياته السفر كطريقة لمعانقة ذاته الأخرى، توفي إثر مرض عضال في يناير/كانون الثاني 2000 مخلفا وراءه حلم شاعر في خلق كون شعري.

1

هنا
أطلال تئن داخل لغة عتيقة.
باييس
هنا والأحجار تُقبلُ السماء منذ البارحة منذ الأبد
حضور.. غياب
بين احتضار الأرض والجمود
الأعمى القادم من الجدران يتهاوى على ذاكراتنا
هنا
أحجار إلى المطلق
أعمدة منهارة، خراب
أحجار من الطمي متخفية، منذورة للنسيان
لهِؤلاء الذين يقطنون الحقول
هنا والساعات المتراكمة
والصمت المشتعل
والصمت على مشارف الظهيرة
بيضاءُ الساعات التي تعكس على الأحجار
عمق الشمس
بياض قاتل حد التحجر
ما حال الكلمات، اللغة، الرجال الذين يمنحون القوة
للعبارات من جمال الحصاد؟
وعويل الصمت في الصمت

2

على العشب الأزرق التائه على هاته الأرض اليباب
المنذورة لشجيرات شائكة، ينعدم أي صوت بشري
رغبة عاصفة لترك كلمة على حجر لإعادة رصف حاضر متاح حاضر.
يجب أن نولد مرة ثانية
باييس
وها هي الظهيرة الساعة حيث تتراص اللحظات المشتتة
وفي جسدي الدم يرتج ويتصارع ضد الصمت.
السنديانة العالية المنتصبة في النهار – حواجز خضراء – الرجاء لهذا العمق.
يثور الجمود ويبحث عن بطشه.
هنا، هناك، في مكان ما، حيث ولدت تغفو ساعات
تحت الأحجار تتنفس الصرخة
أطالب بلعنات إلى الظهيرة
عم يتحدث الدم في عروقي؟
دمٌ يقرع جرس المعبد المجاور وحيث الصدى يخفق
كالريح على الأحجار
يُصفِر في الأصقاع البعيدة
دمٌ يقرع الزمن الذي يأتي ولن يكون إلا عبر ـ الآن.

3

أحجار
حنو يدي البطيء
جسد
ثرثرات تتناسل:
الشجيرات الشائكة تعبر طرقا لامرئية بين الأجساد
المهداة لانتظار الظهيرة، في مكان ما الحب.. في مكان ما
مكعبات من الأرض محروثة، مسمدة، تمد فرحها كملابس نظيفة
في مكان ما، غسيل على حبل من الأفق أخضر وأزرق
والحياة بطيئا تتقطر مواجهة للشمس
هناك
أحجار معراة من طميها
والدم الطائش ينخفض لهذا التلاقي.

4

منتصف النهار، أخيرا
قبضة يد ترتفع
كل اشتعالات الشمس في داخلها
اللحظة المتوحشة التي تمزق كل الشجيرات الشائكة
حركة تعثر على الذاكرة
الشمس تبْيضُّ في نهايات الرؤية، منتصبة أعلى أشجار الزيتون، تمتص السماء.
أشجار الزيتون تلجم هذيانها، السماء لم تعد تجرؤ على الارتعاش، تنفجر الفاكهة عصيرا
ولتدارُكِ موتِها تضم اللحظة، الهواء إذا يصير أكثر ثقلا بالغموض
الغبار المنهزم ينهطل على الأرضية التي أنشأته
هنا
ثابتا، أعبر المدى المثخن بنهاره
الروائح الحادة للذاكرة بالعطور العنيفة – خليط من الأعشاب الطيبة – تهيج الرحيق
الذي يتسلقني
الشمس تستقبلني في موجة من الصمت.

5

الظهيرة، دائما
أحجار ملتهبة من جديد الظل يتثاءب
الظل تحت لساني يجهل الكلمات وفي فمي
حرقة عدم معرفة القول انعدام المعرفة.
الزمن يرتدي جسد الصلصال
الصمت يحيك نفسه بشفافية وسماكة
أحجار وأحجار أطلال
بلدي التاريخ وكل التواريخ والتاريخ الخائب شريط من الأحجار
يمر أمام عيني
باييس، هل سأدري يوما أين تجد ظهيرتك نارها؟
والساعات في عقاربها مصقولة بأيدي رجال
تلقي عليّ التحية، غير آبهة.

6

أرضٌ
يرقد رجال في القرى المقابر.
من نوافد المنازل تسقط أحجار الزوايا
دموع
دموع وحجر على حجر الخيبات تتراكم
صرخةٌ – ثقبٌ، ما تفعله شفتاي في العتمة الزرقاء لإنهاء الصمت
وإعادة النطق لهاته الساعات في اكتساح الشمس المطلق، والزهرة القرمزية
تعانق أبديتها
أرضٌ
هنا.

7

في الساعة العقارب تخترق، وفي الفضاء، السماء كل السماء الذي يحتويها، تسيل
تنعدم إذن كل كلمة على شفتي، ودوخة اكتشاف كينونتي بعيدا
عن كل شاطئ.
من جديد انحنيت
الصمت في ديمومته كخنق صرخة ذبْحِها على الصخرة الملتهبة
هنا بكل وزني الذي لا يلزم، مع هاته السماء على كتفي
تثقل كاهلي حتى تكاد ركبتاي أن تلامسا الأرض
أرض تمتد كصحراء
شفاه متشققة، عطش تلمع ألف نافورة، الوجوه تتعدد – والشمس الحضور المنفرد
تلوث جسدي
أرحل نحو شواطئ أخرى
هنا هامدا بين القمم ذات الأضواء الغريبة أنتظر
أصغي لوقع الساعات التي تعبر جسدي
أرض أنا أرض لأرض، والأحجار حولنا
الأرض الفم، الأرض العينان، الأرض اليدان، والأرض عضوي التناسلي، أعد عظامي
عبر هاته الأرض، حتى الأحجار صارت نوافير، منابع، حيث الآتي يتبدى
بصورة بلد انتهى للتو من فنائه.
ثبات.

8

العقارب مازالت تحفر الساعة
تأخذني الأرض إلى عمقها
ها هو الموت، حركة خفيفة، نهاية تأرجحٍ
زلزلةٌ،
حضور مكتمل في عرض الساعة العارية
رأيتُ إذن
الأرض تنفتح على الأكثر خصوصية، رأيت ما يسيل داخلي السماء، الوجه الآخر للزمن
أرض ووجوه وأحجار.. وجوهٌ هلامية.
بعروق نابضة، أكتشف ملجأ عناق النار، المكان حيث الريح
تعثر على اللهاث الذي يعطي للهيب النظرة الثاقبة، حيث النار تُعري
حيث هي الملهمة وليست المدانة.
أنادي الريح لتوقظ جمرات الذاكرة
لتعيد للأحجار القدرة الهائلة للموج.
إصعدي يا النار، ستقطنك الأحجار.

9

الأرض تختم حلمها في أحلام تنمو منها، رحيق أبدي يُطلِعُ الأزهار تحت الحجر
حتى الحلم، كل شيء يمكننا امتلاكه

10

إيقاع الساعة أخذ شكل جسد في جسدي، معلنا المقدم الوشيك للفصول
الأحجار ستتجمد، موسيقى العصافير، رائحة القمح
الذي نحصد، الصيف، الخريف أيضا
دمي يصل إلى مده،
اللاتوافق يطلع في أحلامي
ويحفر الحلم
يداي تعرفان الوقت

11

وعد الحصاد في سُمْكِ الكلمات
غدا ستكون هاته اللغة العاجلة.
في المعبد، عقارب الساعة تغرق في الصمت، ولا تخبرنا إلا عن أزمنة ميتة
على أحجار بقايا جدار، تصفع الشمس السويعات الأولى لبداية يومٍ.
موعدُ الخبز الطازج.

٭ شاعر من مارساي الفرنسية
٭٭ شاعر ومترجم مغربي
[email protected]

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية