جمهوريات العسكر

حجم الخط
0

ارتبطت الانقلابات العسكرية كظاهرة بالدول الأقل تطورا، التي تعاني تخلفا على مستوى البناء السياسي، وهو ما يدفع إلى القول إن منطق الانقلاب يجد مبرره في ظل وضعيات غير طبيعية تشهدها الدول غير المستقرة من حيث بنية نظامها أو من حيث تحديد آليات التداول على الحكم فيها، ولهذا وبنظرة سريعة لخارطة الانقلابات العسكرية نلاحظ أن الدول التي خضعت للاستعمار الغربي كانت الأكثر عرضة لداء الانقلاب، باعتبار انه في ظل غياب مجتمع مدني وسياسي قوي وتهميش المنظومة الحقوقية، يلعب العسكر دورا مركزيا، بوصفه القوة الأكثر هيكلة وانسجاما وقدرة على التصرف والحسم خارج الأطر الشرعية المعتادة.
ماهية الانقلاب العسكري :
يعرف الدكتور طارق البشري الفقيه الدستوري الانقلاب العسكري بوصفه تحرك ‘ القوات المسلحة بزعم حفظ أمن الدولة ونظامها القائم، وذلك لتحقق عكس ما أعلنته هدفا لها، وهو هدم هذه الدولة ونظامها وإنشاء نظام آخر’.
ويتم تسويق كل انقلاب للشعب على انه فرصة للخروج من أزمة سياسية أو لتحرير الشعب من ظروف سيئة، رغم أن الوقائع تكشف أن الانقلابات هي مرض سلطة وليست علاجا للمشكلات، لأنه غالبا ما يؤدي إلى بناء أنظمة مستبدة ومغلقة، حتى وإن جلبت الاستقرار السياسي لفترة، فإن النتيجة الأكثر شيوعا هي أن الانقلابات تفضي إلى ثورات لاحقة أو إلى حروب أهلية وسلسلة من الانقلابات المتلاحقة، ذلك أن الانقلاب ومهما كان الشعار الذي يرفعه أو الأرضية التي ينطلق منها يظل فعلا غير مشروع، لأنه انبنى على القوة، والقوة تؤسس واقعا ولا تضفي شرعية. فهناك فرق بين الأمر الواقع (القائم على الإلزام والخوف) والأمر المشروع، وهو أن يكون الحكم نابعا من إرادة المحكومين وأن يبقى الحق قيمة أخلاقية وقانونية تتوفر للمواطن، من دون إلزام أو خوف بل من خلال الشعور بالواجب، وكما يقول روسو ‘إن القوة لا توجد الحق وليس للمرء أن يطيع إلا ذوي السلطان الشرعي’ .
ولهذا كان من الطبيعي أن يكون الهاجس المركزي لدى كل الانقلابيين هو كيف يمكن إكساب فعلهم الانقلابي صيغة شرعية، من خلال اتخاذ خطوات لاحقة سواء من خلال اشراك بعض المدنيين معهم في السلطة، أو من خلال إجراء انتخابات شكلية ليظل العسكر هم الحكام الفعليين من وراء الستار .
ونلاحظ أن الانقلابات العسكرية على أصناف مختلفة، وإن كان جوهرها واحدا وهو الوصول للسلطة من خلال القوة أو الإطاحة بسلطة قائمة بعيدا عن الآليات الديمقراطية المعروفة (آلية الانتخابات والصناديق ). فبعض الانقلابات تتم تحت ذريعة تحسين فعالية الحكومة (بدعوى فشل الحاكم المنتخب) أو استعادة النظام العام أو محاربة الفساد، وهي تؤدي عموما إلى تغيير الأشخاص، لكنها لا تغير هيكل النظام السياسي ولا تأتي بإصلاحات فعلية، بل على العكس من ذلك غالبا ما تغرق الطغمة العسكرية في الفساد (وابرز نموذج لمثل هذه الانقلابات انقلاب برويز مشرف في باكستان 1999 والانقلاب التركي سنة 1981 (.
وثمة نمط آخر من الانقلابات التي تأتي لمنع المسار الديمقراطي من الاستمرار، خاصة إذا شكلت القوى السياسية الصاعدة انتخابيا، خطرا على مصالح القوة العسكرية، وابرز نموذج لمثل هذه الانقلابات التي تكون في غالب الأوقات غاية في الدموية (انقلاب سنة 1973 في تشيلي ضد الرئيس المنتخب سلفادور ألليندي، والانقلاب في الجزائر سنة 1992 بعد نجاح الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات).
وهناك انقلابات نادرة قامت بإعادة توزيع السلطة في بلدها وشكلت تمردا ضد نظام استبدادي مغلق، ويسمى هذا النوع من الانقلاب بالانقلابات الاختراقية، ويقوم بها صغار الضباط والجنود ضد حاكم مستبد قبل العودة إلى ثكناتهم وانطلاق المسار الديمقراطي (وابرز نموذج لمثل هذه الانقلابات انقلاب الضباط باليونان سنة 1967، وانقلاب البرتغال سنة 1974 ).
وتبقى كل أشكال الانقلاب خطيرة لأنها تنبني على مجازفات قد تفضي أحيانا إلى الفوضى، أو إلى تفكك الجيش والبلد (النموذج الصومالي بعد الانقلاب على سياد بري 1991).

جغرافيا الانقلابات العسكرية

بنظرة سريعة يمكن أن نلاحظ أن الانقلابات العسكرية تتركز بالدول الأكثر تخلفا والأقل نموا والمستقلة حديثا حيث نجد ما يلي: بداية من سنة 1949 وإلى الآن تموز/ يوليو 2013، شهدت الدول الافريقية 91 انقلابا ناجحا و109 محاولات انقلاب و145 مؤامرة انقلابية، وفي ذات الفترة عرفت أمريكا اللاتينية 70 انقلابا ناجحا، كما شهدت دول منظمة التعاون الإسلامي 109 انقلابات كان نصيب الدول العربية منها 37 انقلابا ناجحا، وفي نفس الفترة لم تعرف أوروبا الغربية سوى انقلابين، احدهما في اسبانيا والثاني في البرتغال. وعرفت دول أوروبا الوسطى والشرقية 22 انقلابا منها 5 في اليونان وحدها .
وما يمكن ملاحظته أن الانقلابات تحولت إلى أشبه شيء بالحمى المتواصلة في بعض الدول، فكلما حصل انقلاب استدعى انقلابا آخر يتبعه، إذ لا شرعية لغاصب لأن الوصول للحكم بالقوة يجعله ينهار بزوالها، لأنه يمكن التمرد على أي منظومة سلطوية سائدة بمجرد امتلاك القوة للمواجهة، وهذا يعني أننا لم نعد في إزاء منظومة حقوق وإنما إزاء صراع قوى وهذا ما يفسر انه كلما شهد بلد ما انقلابا ازداد احتمال وقوع انقلاب آخر في البلد. فعلى سبيل المثال عرفت هاييتي 26 انقلابا وبوليفيا 14 انقلابا وأفغانستان 12 وسورية 8 وموريتانيا ونيجيريا 6 وبوركينا فاسو والعراق 5 والسودان وتركيا 4 وباكستان وأوغندا والجزائر 3 ومصر 2 ولا تخلو تقريبا دولة عربية من انقلاب أو محاولة انقلابية على الأقل، وهو أمر يجد جذوره في غياب الاستقرار السياسي وافتقاد آلية واضحة للتداول على السلطة، بالإضافة إلى تغول العسكر والتدخل الأجنبي بامتداداته المختلفة .

الانقلاب العسكري والتدخل الأجنبي

من النادر أن يتم انقلاب ما دون أن يتم إخطار أجهزة الاستخبارات الأجنبية، حيث يقوم الانقلابيون أنفسهم بالاتصال بالقوى الأجنبية لطمأنتهم على مصالح دولهم والحصول على دعمهم الضمني، بل كانت بعض الانقلابات نتاجا لترتيب خارجي حيث تقوم قوة خارجية تريد إسقاط حكومة تهدد مصالحها بتجنيد متآمرين من قيادات جيش البلد المستهدف لتنفيذ انقلاب ضد الحكومة القائمة بالبلد، أو لقطع الطريق أمام قوة شعبية صاعدة قد تشكل خطرا على نفوذها. وقد أظهر عديد الدراسات الإحصائية في أمريكا اللاتينية انه كلما تلقى بلد ما مساعدات عسكرية من الولايات المتحدة كان هذا البلد أكثر عرضة للانقلابات (انقلاب غواتيمالا 1955، الدومينيكان 1961، كوبا 1959، تشيلي 1973 فنزويلا 2002 الخ ..) ومن المعروف تاريخيا أن أول انقلاب عرفته المنطقة العربية سنة 1949 كان في سورية على يد حسني الزعيم وبتخطيط أمريكي، كما يؤكد مايلز كوبلاند رجل الاستخبارات المركزية الأمريكية بالشرق الأوسط، في كتابه ‘لعبة الأمم’، الذي تحدث أيضا عن الدور الأمريكي المهم والفعال في التدبير للانقلاب المصري في يوليو 1952، بالإضافة إلى انقلابات أخرى كثيرة تمت ضد أنظمة مناوئة للمصالح الأمريكية (أشهرها الانقلاب ضد الدكتور مصدق في إيران سنة 1953 على سبيل الذكر لا الحصر).
وتصدق نفس الظاهرة على فرنسا حيث لوحظ الترابط الوثيق بين التعاون العسكري الفرنسي مع دولة ما والانقلابات التي تشهدها لاحقا، لأن التعاون العسكري يفتح المجال لبناء علاقات بين ضباط من الجيش والقوى الأجنبية التي توظف مثل هذه الارتباطات لحماية مصالحها عند وصول أي حكومة مناوئة للمصالح الأجنبية. وفي هذا السياق يقول جان شارل مارشياني الضابط السابق بالمخابرات الفرنسية انه ‘بين الدور الأول والثاني للانتخابات الجزائرية كانت هناك اتصالات ساهمت فيها بين الجنرالات الجزائريين وفرنسا، كنت في قصر الاليزيه مرتين أو ثلاث مرات عندما أعطى الرئيس ميتران موافقته بطريقة غير مباشرة ولكن جد واضحة، لم تكن طريقة رسمية ولكنها كانت جد واضحة لمنع إجراء الدور الثاني من الانتخابات الجزائرية’.
ومما تقدم يمكن القول ان الانقلابات العسكرية شكلت أداة لخدمة مصالح أجنبية وتنفيذ أجندات مشبوهة، وهي في أحيان كثيرة تفضي إلى ظهور أنظمة استبدادية شديدة القسوة وفاشلة في بناء اقتصاد قوي أو حتى في الدفاع عن حرمات الوطن، الذي ادعى العسكريون السهر على حمايته. وبقي أن نشير في هذا السياق الى أن ثمة نماذج ناجحة لإفشال انقلابات عسكرية عبر الإرادة الشعبية، لعل أشهرها الانقلاب على الرئيس الفنزويلي (2002) الذي دبرت له المخابرات الأمريكية وتم على مراحل، بداية من تحريك الشارع مرورا بتوجيه رئيس هيئة الأركان إنذارا شديد اللهجة للرئيس هوغو شافيز قائلا ‘إن القيادة العسكرية العليا مضطرة للقول للرئيس أنت السبب في كل هذا، لقد حان الوقت للتنحي، إذا لم تقم بهذه الخطوة فشخص آخر سيفعل’، وتحركت وحدات عسكرية لتقوم بالسيطرة على مؤسسات الدولة واحتجاز الرئيس وتعيين بيدرو كرمونا رئيسا مؤقتا، غير أن هذا الانقلاب فشل تماما بعد خروج أنصار الرئيس المعزول إلى الشوارع والمرابطة فيها وصولا إلى إفشال الانقلاب وعودة شافيز إلى السلطة من جديد .
إن الإرادة الشعبية تظل في النهاية أقوى من إرادة الانقلابيين مهما كانوا حتى إن استقر لهم الوضع لفترة فإن انهيار نظامهم مسألة وقت ليس إلا، وكما يقول روسو ‘ليس الأقوى بقوي دائما قوة تجعله يسود أبدا إذا لم يحول قوته حقا والطاعة واجبا’، ولا تصبح القوة حقا والطاعة واجبا إلا إذا كانت نتيجة للإرادة الشعبية الحرة وعبر صناديق الاقتراع وليس غيرها .

‘ باحث في الفكر السياسي من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية